أستاذ لغويات: التوتر حول اسم “كورونا” صدام لغوي بامتياز و”استعارات الحرب” تشحذ الانتباه

Estimated reading time: 106 minute(s)

 

  • علم اللغة التطبيقي يدرس دور اللغة في مناحي الحياة ويربط بين العلوم
  • “الوباء” مرض منتشر في بلد ما على نطاق واسع و”الجائحة” وباء عالمي معدٍ
  • تسمية الفيروسات منوطة إلى لجنة رسمية متخصصة ولها إرشادات
  • التوتر الحاصل حول اسم الفيروس صدام لغوي بامتياز وليس مجرد خلاف
  • مفردات الحرب لكورونا تشحذ الانتباه وتعمق الأثر النفسي للكلمات
  • جائحة كورونا أنتجت مفردات جديدة إلى عامة الناس
  • لم أرَ جهودًا منظمة في علم اللغة التطبيقي بخصوص كورونا وإنما محاولات فردية
  • رغم قسوة مصطلح “التباعد الاجتماعي” إلا أنه أدى المطلوب منه
  • مع الجائحة أصبح الجميع يستخدمون مصطلحات عابرة للميادين المعرفية
  • نعوم تشومسكي لم يكن موفقًا في تحليل “التعبئة الاجتماعية”
  • أسعى للتواصل مع “تشومسكي” وسأقوم بنشر اللقاء معه إذا تم
  • التّواصل القائم على التعدّد اللّغويّ يسدّ الفجوات الاجتماعيّة ويعزّز التّفاهم
  • “لغة كورونا” ومفرداتها أنتجت مفاهيم وتحولات سريعة لا يمكن حصرها
  • الإعلام الصحي في المملكة حقق نجاحًا باهرًا بأداء متميز
  • علم اللغة التطبيقي يتناول “رسائل التوعية” من منظور “التواصل”

 

حوار: سلمان المعيوف

أتى الأجل المسمى، وغابت الشمس في عين هذه الجائحة الحمئة، وخيم الظلام على جميع أرجاء الأرض، فلم تغب الشمس كعادتها في مكانٍ لتشرق في مكان آخر، بل اختفى ضياؤها ولم يُرَ نور القمر في أي سماء.

أُغشيت الوجوه بقطع هذا الليل المظلم، وتاقت الأنفس إلى بزوغ الشمس، وأمسى الناس حيارى؛ كل ما يبتغوه أن تطلع عليهم شمسهم دون أن يكون بينهم وبينها سترًا.

حتمًا سيُقضى الأمر، وسيُقطع دابر هذه الجائحة، وسينجلي غسق ليلها، وستصبح الأرض بعدها مخضرة، وأما نحن فسنصبح حينها بنعمةٍ فرحين مستبشرين.. إن موعدنا الصبح أليس الصبح بقريب.

ونظرًا لكون هذه الجائحة ستخلف العديد من الآثار والتداعيات في مختلف الميادين العلمية والعملية حتى بعد انتهائها، ومن ضمنها الأبعاد اللغوية التي بدأت آثارها ولن تنتهي تداعياتها؛ التقت صحيفة “الأحساء اليوم” الدكتور أحمد بن فتح الله التاروتي، أستاذ اللغويات التطبيقية بجامعة الملك فيصل بالأحساء سابقًا، الذي كتب في هذا المقام سلسلة مقالات متخصصة بعنوان “كورونا.. البعد اللغوي”، في حوار علمي مطول كانت هذه تفاصيله:

 

علم اللغة التطبيقي وفوائده

* باختصار: ما هو علم اللسانيات أو اللغة التطبيقي؟ وما هو الفرق بين اللغويات التطبيقية واللغويات النظرية؟ وما الهدف الذي يتحقق من دراستها؟

– حين توجد «مشكلة» ما فإنَّ «الحل» لا يُلتمس من مصدر واحد. و«تعليم اللغة» مشكلة يحاول «علم اللغة التطبيقي» أن يبحث لها عن «حل»، من أجل ذلك هو علم يمثل جسرًا يربط بين عدد من العلوم، أو هو «النقطة» التي تلتقي عندها العلوم التي لها اتصال بلغة الإنسان. علم اللغة التطبيقي إذن هو علم متعدد المصادر والروافد، يستمد منها مادته لحل المشكلة التي يضطلع بها، وبما أن «اللغة» الإنسانية لها اتصال وثيق بالنشاط المعرفي للإنسان لا يمكن حصر هذه المصادر في علوم بذاتها. لكن هناك علوم أربعة تعتبر هي المصادر الأساسية لعلم اللغة التطبيقي، حيث انطلاقته من الاهتمام بتعلم وتعليم اللغة الإنجليزية:

  • علم اللغة (“النظري”).
  • علم اللغة النفسي (Psycholinguistics).
  • علم اللغة الاجتماعي (Sociolinguistics).
  • علم التربية (Education).

علم اللغة

علم اللغة يعرف بعلم اللغة العام (General Linguistics)، وعلم اللغة النظري (Theoretical Linguistics) لكن ليس بالمفهوم التقابلي «النظري» إلى «التطبيقي»، وإنما هو العلم الذي يدرس اللغة على منهج «علمي» مقدِّمًا «نظرية» لغوية، و«وصفًا» لظواهر اللغة. وحين ظهرت علوم من مثل علم اللغة الاجتماعي، وعلم اللغة النفسي، وعلم اللغة التطبيقي، وغيرها من العلوم اللغوية؛ أصبح «علم اللغة» المظلة لهذه العلوم، وتأكيدًا لطبيعته الأصلية باعتباره علمًا «مستقلًّا» يهدف إلى وصف اللغة الإنسانية وصفًا «علميًّا» بصرف النظر عن الفوائد «العملية» لهذا الوصف، التي، غالبًا لا يعبأ بها.

أغراض علم اللغة

ولعلم اللغة أغراض منها:

  • الوقوف على حقيقة الظواهر، والعناصر التي تتألف منها والأسس القائمة عليها.
  • الوقوف على الوظائف التي تؤديها في مختلف مظاهرها وفي شتى المجتمعات الإنسانية.
  • الوقوف على العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، والعلاقات التي تربطها بما عداها من الظواهر، كالظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية والطبيعية.
  • الوقوف على أساليب تطورها واختلافها باختلاف الأمم والعصور.
  • كشف القوانين التي تخضع لها في جميع نواحيها والتي تسير عليها في مختلف مظاهرها (القوانين التي تسير عليها في تكونها ونشأتها وأدائها لوظائفها وعلاقاتها المتبادلة وعلاقتها بغيرها وتطورها وما إلى ذلك)، وهذا الغرض هو الأساس لبحوث علم اللغة بل هو الغرض الأسمى لعلم للغة، والأغراض السابقة ليست في الواقع إلا وسائل للوصول إليه.

* كيف يمكننا الاستفادة من علم اللغة التطبيقي أو اللسانيات في فهم وتحليل المصطلحات الطبية، وفي فهم وتحليل عمل الإعلام الصحي بشكل خاص، وفي فهم وتحليل ما يحدث مع جائحة فيروس كورونا المستجد بشكل أخص؟

– هذه ثلاثة أسئلة في سؤال، وإجابتها في واحدة، لكن من حيث المبدأ، أقول: بناءً على ما ذكرنا في الجواب السابق، نقول إن علم اللغة التطبيقي هو العلم الذي يدرس دور اللغة في جميع مناحي الحياة: التعليم، الصحة، الإعلام، القضاء، السياحة، السياسة إلخ مجالات الحياة المتعددة. وتأتي أهميته من كون الناس يتعاملون مع بعضهم بالتواصل اللغوي، ويأتي كثير من عدم الفهم أو المشكلات بين البشر بسبب اللغة؛ ومن هنا يدرس علم اللغة التطبيقي أي مجال تكون اللغة فيه هي أداة التفاهم والتواصل والتعامل.

فيهتم باللغة بين الطبيب والمرضى، وبين الطبيب والممرض، وبين القاضي والمتهم، وبين المحقق والمتهم، وبين المعلم والطالب، وبين الأب وأبنائه إلخ.. فكل مجالات الحياة لا تستغني عن اللغة، ومن هنا تأتي أهمية هذا العلم الذي يدرس اللغة ودورها في عملية التفاهم أو عدمه، وعملية التعاون أو التسلط، إلى غيرها من المفاهيم.

كلُّ الأزمات، كالحروب والصرعات والجوائح، خاصة التي تدوم طويلًا تخلق واقعًا جديدًا، وفي هذا الواقع الناتج للغة حظٌ فيه، يكبر ويصغر حسب سعة لسان أصحابها؛ بسبب أنها أداة نقل المفاهيم وتبادلها فتخلق مفردات جديدة، أو تمنح معانٍ جديدة لمفردات متداولة، لتعبر عن مستجدات الحدث الجديد، فتصبح جزءًا من الخطاب الجمعي في مجتمع ما مع تداولها في الإعلام، بوسائله المختلفة، المرئية والمسموعة والمقروءة، ومع التقدم التقني الهائل والمتسارع في أدوات الاتصال والتواصل الجمعي الآني؛ لحظة وقوع الحدث ونقله “لغة” (صوت وصورة)، والمختص في علم اللغة التطبيقي يراقب ويتابع هذه المصطلحات؛ لأن صناعة المعجم (Language Making) هو من اهتمامات هذا العلم، متكئًا على علمين نظريين يهتمان بقضية المفردات.

الآن، ربما المفردات تدخل المعجم اللغوي الرسمي في أيام بعد أن كانت تأخذ عقودًا حتى في الماضي القريب، ففي أزمة كورونا الحالية اعتمدت المعاجم الإنجليزية، كمعجميّ أوكسفورد ومريم وبستر، كثيرًا من المفردات بسرعة قبل أن تستوطن هذه المفردات في المعجم الذهني(mental lexicon) ، للأفراد فقط بسبب انتشارها في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. فالجدل العربي حول كلمة “جائحة”، أحد أسبابه، هو أنها لم تستقر في أذهان كلّ أو أغلب الأفراد في المجتمع، رغم تداولها إعلاميَّا ورسميَّا من قبل مؤسسات الدول.

 

جائحة أم وباء

* من الملاحظ التعبير عن فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بالجائحة أكثر من الوباء، علام يدل ذلك؟ وهل هناك فرق بين “الوباء” و”الجائحة” من الناحية اللغوية؟

– ظهرت كلمة الوباء«Epidemic»  والجائحة «Pandemic» في القرن السابع عشر؛ نتيجة للأمراض العظيمة في القرن السابع عشر الميلادي، فتحت المجال لدخول الكلمات «المتعلقة بالوباء» إلى اللغة الإنجليزية لوصف تجربة الناس في الوبائي.

لدينا في تسمية انتشار مرض ما، ثلاثة مفردات بناءً على سعة هذا الانتشار:

  • “التفشي” (Outbreak)، يستخدم لأول ظهور المرض وبحالات قليلة فقط. (معجم ستيدمانز الطبي (Stedman’s Medical Dictionary) ، والمعجم الطبي الموحد لمنظمة الصحة العالمية.
  • “الوباء”: زيادة عدد حالات المرض بما يتجاوز ما هو متوقع عادة. غالبًا ما تكون الزيادة مفاجئة.
  • “الجائحة”، ويراد بها المرض الذي انتشر إلى دول أو قارات متعددة. فبينما “الوباء” مرض منتشر في بلد ما بين السكان المحليين على نطاق واسع، الجائحة هي “وباء عالمي”، ولا يوصف الوباء العالمي بالجائحة إلا عندما يكون معديًّا.

لذلك عدَّت منظمة الصحة العالمية المرض “كوفيد-19” (Covid-19) الذي انتشر في الصين، جائحة عالمية في 11 مارس 2020م، بعد أن “اجتاح” حدود الصين إلى دول أخرى في أوروبا، كإيطاليا، والشرق الأوسط، كإيران. ثم أصبح عابرًا للدول والقارات. يومها بلغ عدد الحالات المصابة حول العالم 113 ألف و752 حالة، وسجلت جميع الدول التي أعلنت عن إصابات 4 آلاف و18 حالة وفاة جراء كورونا. وهناك من يرى أن استخدام كلمة جائحة على وباء كورونا غير صحيح، لكني فندت هذا الادعاء في مقال رقم (8) في سلسلة “كورون.. البعد اللغوي” المنشور في موقع صحيفة جهينة الإلكتروني.

 

تسمية الفيروس الجديد

* مصطلح “فيروس كورونا المستجد” له تعريف علمي معروف، كيف تقرأه وتقرأ انتشاره والتحولات التي مرت عليه كمختص في علم اللغة التطبيقي؟ حبذا لو تسلط الضوء على هذا المصطلح كمختص في علم اللغة التطبيقي؟

– بعد فترة من انتشار المرض في الصين وإخبار منظمة الصحة العالمية عنه رسميًّا في (31-12-2019)، ثم وتحديد الفيروس من فصيلة فيروسات كورونا (الفيروسات التاجية) سماه المختصون “فيروس كورونا الجديد/المستجد 2019” (CoVn2019)، وهو مركب من “”Co في “corona” (كورونا) و “”V في “virus” (فيروس)، و n”” في “”novel (جديد)، و”2019″؛ أي (2019( السنة الميلادية التي ظهر فيها الوباء.

ثم ظلت مجموعة من العلماء تبحث خلف الأبواب المغلقة عن مصطلحٍ «اسمٍ» جديد له، حتى أعلنت المنظمة الاسم العلمي (الطبي) لفيروس كورونا الجديد، رسميًّا في فبراير 2020م (11-2-2020)، وهو “كوفيد-19” (COVID-19)، وهو اسم مركب بالحروف الكبيرة من “”CO في “corona” (كورونا) و “”VI في “virus” (فيروس)، وD”” في “”disease (مرض)، و “19” من “2019” (2019( السنة الميلادية التي ظهر فيها الوباء.

* أطلقت منظمة الصحة العالمية على هذا الفيروس اسم (كوفيد-19) إلا أن بعض وسائل الإعلام وكذلك بعض الأوساط الشعبية إلى الآن لا يعرف إلا باسم كورونا أو كورونا الجديد أو المستجد، بل حتى العديد من الأطباء ما زال في حديثه لا يعبر عنه بهذا الاسم، السؤال: لماذا لم يصبح هذا الاسم منتشرًا شعبيًا؟ ما أسباب ذلك بوجهة نظرك؟

– كما بينت في الإجابة عن السؤال السابق، بعد فترة زمنية من انتشاره في الصين وإخبار منظمة الصحة العالمية عنه رسميًّا في «31-12-2019»، ثم اعتبار انتشاره حالة صحية طارئة تستحق الاهتمام العالمي في «30-1-2020»، وفي «11-2- 2020»، أعلنت المنظمة الاسم لفيروس كورونا الجديد، وهو “كوفيد-19” (Covid-19). لكن لغة العامَّة؛ أي غير المختصين، التي تنقلها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أو تغذيها لا زالت تتدوال “كورونا”، أو “فيروس كورونا”، في أحسن الأحوال، متجاهلة “كوفيد-19″، الاسم العلمي «الطبي». وقد أشرت أعلاه لهذا السبب، وهو ما يستدعي دراسة منفصلة بذاته؛ لكن لاحظت مؤخرًا ازديادًا في وتيرة استعمال الاصطلاح الطبي (كوفيد-19) في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

* كيف يتم اختيار اسم لأي جائحة أو وباء أو مرض أو فيروس جديد؟

– تسمية الفيروسات منوطة إلى لجنة رسمية متخصصة وهي «اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات»، إلا أن بعض التسميات قد تَخلق مشاكل ليست في الحسبان، أو ردود أفعال لم تكن في بال مطلق «أو مطلقي» الاسم؛ لذا تسمية أي فيروس جديد غالبًا ما تتأخر، وفي المرحلة الأولى؛ كي يميز العلماء الفيروس، يضيفون إليه صفة (جديد)، كتسمية أولوية، كما في حالة فيروس كورونا أصبح فيروس “كورونا الجديد”. هذا يساعد على تهدئة الناس، وأن المختصين لا يتعاملون مع شيء مجهول.

والتسمية تعتمد أحيانًا على صفة مميزة للفيروس مسبب المرض؛ لذا فيروسات “الكورونا” سميت بهذا الاسم نظرًا لصورتها تحت المجهر، التي تبدو ذات أطراف مدببة كالتاج. وأوصت منظمة الصحة العالمية بالاسم المؤقت “كوفن2019” (CoVn2010)، شرحت تركيبته آنفًا، ولكن هذا الاسم لم يحظَ بالتداول؛ لأنه ليس سهل الاستخدام، فَلجأت وسائل الإعلام وعامة الناس إلى استخدام أسماء أخرى للفيروس، ثم أعلنت المنظمة الاسم لفيروس كورونا الجديد، وهو “كوفيد-19” (Covid-19)، وشرحت تركيبته آنفًا أيضًا.

* ما هي معايير منظمة الصحة العالمية في إطلاق التسميات على الأمراض والأوبئة؟ وما هي نظرتك لها بصفتك مختصًا في علم اللغة التطبيقي؟

– أصدرت المنظمة بعض الإرشادات لتسمية الأمراض بعد ما لاحظت المنظمة أن بعض أسماء الأمراض أثارت ردود فعل عنيفة لدى بعض الطوائف الدينية والعرقية، وأوجدت حواجز لا مبرر لها في السفر، والتجارة، وأدت إلى قتل بعض الحيوانات التي تتغذى بعض الشعوب على لحومها؛ بناءً على هذه الإرشادات:

  • يجب أن يكون قصيرًا واصفًا، مثل “سارز”، وهو اختصار (مرض الالتهاب الرئوي الحاد)، في اللغة الإنجليزية.
  • يجب أن يكون أسهل في النطق من غيره من الأسماء المنتشرة، حتى ينال الاسم الشيوع والانتشار.
  • يجب ألا يتضمن:
    • إشارة إلى موقع جغرافي.
    • اسم من أسماء من الشعوب.
    • اسم حيوان خاصة الأنواع التي تأكلها الناس.
    • اسم نوع من الأغذية.
    • اسم يشير إلى ثقافة محددة (ديانة، أو مذهب، أو عرق، إلخ من صفات الهوية الثقافية).
    • اسم يشير إلى صناعة بعينها، أو ماركة تجارية.

وكما ذكرت في السؤال السابق، أن تسمية الفيروسات منوطة إلى لجنة رسمية متخصصة وهي «اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات»، لكن رغم هذا قبل اعتماده يرسل كبحث إلى دورية علمية محكمة لنشره، قبل إعلانه رسميًا للملأ العام.

فريق التسمية، يسعى إلى أن يفهم الناس الفيروس أو المرض، مع الأمل أن يساعد الاسم الباحثين على التركيز في مكافحة الفيروس، بإزالة الخلط واختصار الوقت، ولمعرفة أهمية التسمية العلمية لمسبب المرض والوباء، وهي عملية لغوية، هم منفتحون على التسمية ويأملون أن تكون صائبة، وهم مع المنظمة يراقبونها ومستعدون للمراجعة والتغيير، ويأخذون التسمية على محمل الجد الأقصى ويعتبرون مشاركتهم في التوصل إلى تسمية فيروس أو مرض مهمة، وقد تكون، في نظرهم أكثر مساعدة للناس من أداء عملهم في مجال تخصصهم. فهي، عندهم، “مسؤولية كبيرة”.

ولهذا السبب قامت المنظمة بإصدار إرشادات لتسمية أسماء الفيروسات الجديدة عن طريق مكتبها في جنيف في «8-5-2015م»: دعت فيه العلماء والسلطات الوطنية ووسائل الإعلام إلى اتباع أفضل الممارسات في تسمية الأمراض المعدية البشرية الجديدة لتقليل الآثار السلبية غير الضرورية على الدول والاقتصادات والناس. جاء في الإصدار ما يلي:

“في السنوات الأخيرة، ظهرت العديد من الأمراض المعدية البشرية الجديدة ]….. لكن [استخدام أسماء مثل “أنفلونزا الخنازير” و”متلازمة الشرق الأوسط التنفسية” كان له آثار سلبية غير مقصودة من خلال وصم مجتمعات معينة أو قطاعات اقتصادية، قد تبدو هذه مشكلة تافهة للبعض، لكن أسماء الأمراض مهمة حقًا للأشخاص المتأثرين بشكل مباشر. لقد رأينا بعض أسماء الأمراض تثير رد فعل عنيفًا ضد أعضاء مجتمعات دينية أو عرقية معينة، وتخلق حواجز غير مبررة للسفر والتجارة والتجارة، وتؤدي إلى ذبح حيوانات الطعام دون داعٍ. يمكن أن يكون لذلك عواقب وخيمة على حياة الناس وسبل عيشهم”.

باختصار إذن؛ مهنية التسمية، وما يمر به الاسم من مراحل ومراقبة مؤشرات تدل على منظمة الصحة العالمية تعتبر اسم المرض أو الوباء، ليس دالة لغوية أو مصطلحًا علميَّا جافًا بل له دلالات إنسانية، نفسية واجتماعية، وهذا من جوهر اللغة التي يسعى علم اللغة، بما فيه علم اللغة التطبيقي، لإبرازه للناس.

 

جدل وخلاف لغوي عالمي

* بدأ بعضهم يلقي اللوم على منظمة الصحة العالمية؛ لأنها تأخرت في إعلان كون فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وباءً عالميًا، وكذلك بعضهم ألقى باللائمة على الصين؛ لأنها لم تكن شفافة في الإعلان عن المرض وتفاصيله، وهذا ما جعل الولايات المتحدة تراجع موضوع دعمها لمنظمة الصحة العالمية وتهدد بمعاقبة الصين إذا ثبت تقصيرها في الكشف عن حقيقة المرض وآثاره الفعلية.. ما رأيك بهذا الجدل الحاصل من الناحية اللغوية؟ وهل تأخر التسمية لمرض معين يمكن أن يحدث أثرًا كبيرًا في تفشي الوباء أو تقلصه؟ ولماذا استغرق الأمر وقتًا طويلًا؟

– تسمية أي فيروس أو مرض جديد غالبًا ما تتأخر، والتركيز يكون منصبًا على صحة الناس العامة في البداية، وتناط التسمية إلى لجنة متخصصة تعطيه تسمية أولوية رسمية بهدف التعامل مع شيء معلوم (له اسم)؛ مما يؤدي إلى تهدئة الناس وإلى الحد من تفشي الوباء، ولكيلا يبدأ العامة في استخدام مصطلحات من قبيل فيروس الصين، مما قد يؤدي إلى إيجاد ردود فعل عنيفة لدى البعض، وهذا أمر خطير، والخطورة الثانية تكمن في أن الأسماء غير الرسمية، عندما تتداولها وسائل التواصل الاجتماعي تثبت بسرعة ويصعب التراجع عنها بعد ذلك.

* صاحب هذا الفيروس منذ بدايته الكثير من الجدل، ليس طبيًّا فحسب، بل في نواحٍ أخرى، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان يطلق عليه اسم “الفيروس الصيني” قبل تفشيه في الولايات المتحدة، علام يشير هذا الجدل والخلاف اللغوي حول اسم الفيروس من ناحية علم اللغة التطبيقي؟

– هذا التوتر، حول اسم الفيروس، هو صدام لغوي بامتياز، إذ تسمية الأشياء صناعة لغوية، رغم أنه أمر لافت للمهتم بأمور اللغة، إلا إنه صدام في خلاف أوسع بين أكبر اقتصادين في العالم يتراوح بين التجارة والمنافسة العسكرية إلى معدات الشبكات التي تنتجها شركات عالمية، كشركة هواوي الصينية.

ليس مجرد خلاف على اسم

“الخلاف اللغوي” حول تسمية هذا الوباء بين الصين وأمريكا، مؤشر إلى ما يعرف بـ “الحروب اللغوية”، أو “حرب اللغات”، هو من مواضيع علم اللغة الحديث «الألسنيات»، خاصة التطبيقي، مع تعاون بعض الفروع الأخرى كالاجتماعي، بتناول الموضوع من خلال “التخطيط اللغوي”؛ انطلاقًا من مسائل “تعليم اللغة”، ودور اللهجات العامية واللغات الإثنية، والهوية.

العالم منذ ولادته كان متعدد اللغات والألسن، وعليه، في رأي “جان كالفي” في كتابه “حرب اللغات”، أن الصراع اللغوي لازم تاريخ البشرية، فحرب اللغات هي حرب حقيقية، تكون باردة مرة، وساخنة مرات، وأن تعدد اللغات هو أمرٌّ قديم في تاريخ البشرية.

والسياسة اللغوية تأخذ طابع الصراع على السلطة والقهر والتحكم، ظاهرًا أم مخفيًّا، أو مزيجًا من الصفتين، فاللغة هي من أبرز مكونات الهوية، وفي كثير من الحالات هي مُقدَّمة على الدين. ويبدو، تحت وطأة الانسياق الجماعي، تتكون كتل لغوية جديدة وتؤسس اختلافها عن الآخر ومعه؛ لأن مفهوم الهوية في الأساس يفترض وجود اختلاف مبدئي مع هويات أخرى حتى على مستوى الوطن الجامع. الكورييون رفضوا استعمال كوفيد-19 وأصروا على كورونا-19، الكنديون رفضوا مصطلح التباعد الاجتماعي وأصروا على التباعد الجسدي.

والمسألة اللغوية أيضًا تعتبر من القضايا المرتبطة مباشرة بـ “القضية الإثنية”، وبـ”قضية الأقليات”. فتستمر المعارك في حرب اللغات بسبب تغير الظروف السياسية وتبدل المعادلات فتأخذ مسارًا جديدًا حسب مواقع أطراف اللعبة السياسية.

 

استعارات الحرب

* من الملاحظ في وسائل الإعلام المختلفة التعبير عن فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19) والتصدي له بمصطلحات يعبر عنها في الحروب، فنسمع مثلًا (أن كورونا المستجد يغزو العالم)، (فيروس كورونا يشن حربه على الدول والحكومات)، كذلك نجد التعبير عن التصدي له بما ينسجم مع هذه اللغة كالقول: (إن الأطباء والكادر الطبي هم جنودنا المقاتلون في الصفوف الأمامية للدفاع عنا وصد هجمات هذا المرض) وغيرها من العبارات.. ما هي دلالات ذلك وأسبابه بصفتك متخصصًا في علم اللغة التطبيقي؟

– عندما انتقل فيروس كوفيد-19 إلى أوروبا بدأت سيطرة استعارة الحرب على لغة الخطاب السياسي فيها، ابتداءً بإيطاليا، فما إن أعلن رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي: «إننا في حالة حرب» حتى تبنَّت كلُّ وسائل الإعلام الإيطالية والأوروبية، على اختلاف توجهاتها السياسية «لغة الحرب»، التي صارت اللغة الوحيدة التي يتحدّث بها الجميع. حتى الاقتصادين، أكدوا «نحن في حالة حرب ضد الفيروس التاجي ويجب علينا التعبئة وفقًا لذلك».حتى المثقفين والمفكرين، منهم نعوم تشومسكي طالب في مقالة ومقابلة “التعبئة الاجتماعية” (Social Mobilization) على غرار ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد امتدت “استعارات الحرب” إلى لغة علماء البيولوجيا بمفردات مثل «الفيروسات الغازية» و«الخلايا القاتلة» و«الأمن البيولوجي» و”الجنود في الخنادق”، إشارة إلى الخاضعين لقواعد الحجر الصحي والبقاء في المنازل.

واجتاحت عدوى الاستعارات الحربية العاملين في المجال الصحيّ، المسؤولين الصحيِّن. على سبيل المثال، مشرف الطوارئ في إيطاليا أكد أن الأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي هي «الذخيرة الحية التي نحتاجها لخوض هذه الحرب»، ومدير مستشفى في ميلانو يعتبر المستشفيات «الجبهة الأمامية لهذه الحرب». أمَّا الأطباء والممرضات فبدأوا يتحدثون عن «حرب يصعب خوضها؛ لأن العدو غير معروف»؛ إذ إن «السلاح الوحيد هو البقاء في المنزل واحترام القواعد».

فعمّ “معجم الحرب” خطاب لغة الطب أيضًا، وهذا سميته “عسكرة اللغة”؛ بمعنى تحويل لغة الخطاب «discourse» في قضيةٍ مَا إلى النمط الفكري، في الفكر السياسي، أو تكون مجرد استخدام مفردات أو مصطلحات من “اللغة العسكرية”، وهي “الرَّطَانَة” الخاصة بين العسكريين «المجال العسكري». وفي “أزمة كوفيد-19” (Covid-19)، كوباء عالمي (جائحة) انتشرت المفردات والمصطلحات العسكرية (الحربية)، وبما أن اللغة المسيطرة على الحدث في العصر الحالي هي اللغة الإنجليزية، وهي لغة الجيش الأقوى في العالم، وهو الأمريكي، الزاخر بالمصطلحات الفنية والمهنية بشكل لا يقارن بأي جهة أخرى كان معجمها العسكري هو الأكثر حضورًا، وبدعمٍ من الإعلام الأمريكي المهيمن هو ولغته الإنجليزية على الإعلام العالمي ولغاته.

كلغوي أتفهم جاذبية المعجم الحربي، فهو يشحذ الانتباه، والاستعارات كما أكد اللغويان جورج لاكوف (George Lakoff) ومارك جونسون (Mark Johnson)، في كتابهما المشهور “الاستعارات التي نعيش بها” (Metaphors We Live By)؛ تعمق الأثر النفسي للكلمات، وفي ذات الوقت تصبح أدوات لخلق معانٍ جديدة. الاستعارات ضرورة لتنمية اللغة والإدراك والثقافة، وهي تلعب دورًا مهمًّا في طريقة تفكيرنا وخطابنا عن الصحة والمرض والطب، وتشكيل الطريقة التي نتصرف بها، بشكل فردي وجماعي.

لكن علينا أن نفهم أن “الحرب” هي حالة طوارئ بامتياز؛ لذا تتطلب “التضحية” في سبيلها. فعليه التعامل مع المرض، أو قل الجائحة، كما لو كانت حربًا تجعل البشر كائنات مطيعة ومُنظِّمة، تقبل من دون جدال، بدافع الخوف والتضحية بجميع أنواعها وفي جميع المجالات، وقد تناولت “عسكرة لغة الخطاب الطبي”، في المقال السادس في سلسلة “كورونا: البعد اللغوي”.

 

اللغة وتفشي الأوبئة

* هل يمكن القول إن هناك علاقة وثيقة بين اللغة وتفشي الأوبئة؟ بمعنى: ما هو تأثير الأوبئة في اللغة والعكس إن وجد؟ حبذا لو تم استعراض بعض النماذج التاريخية لتأثير أوبئة سابقة في اللغة ومفرداتها إن أمكن؟

– نعم هناك علاقة وثيقة بين اللغة وتفشي الأوبئة؛ بمعنى؛ أن انتشار المرض، خاصة وباء أو وباء جائح، يُغيّر حياة الناس، هذه التغيرات تحتاج إلى مفردات للتعبير عنها؛ لذا نلاحظ جائحة كورونا أنتجت مفردات جديدة إلى عامة الناس تشمل مصطلحات متخصصة من مجالات علم الأوبئة والطب، والمختصرات الجديدة، والكلمات للتعبير عن الضرورات المجتمعية المفروضة كالعزلة والابتعاد (يمكن الرجوع إلى مقال رقم (7) بعنوان “تفاعل اللغة مع المتغيرات الاجتماعية الطارئة”) في تاريخ البشرية نلحظ علاقة وثيقة بين اللغة والأوبئة؛ نتيجة أن اللغة هي المعبّر عن حياة الناس ومستجداتها.

ظهرت الحمى الصفراء«Yellow Fever» في عام 1738م، وما عرف بـ”الإنفلونزا الإسبانية”«Spanish Influenza» عام 1890م، اختصرت إلى «Spanish Flu» في الوباء العظيم عام «1918م.«

ظهر “شلل الأطفال”«Poliomyelitis» في عام 1878م، وتم اختصاره إلى «Polio» في عام 1911م، على الرغم من أن الوباء الذي هاجم الأطفال بشكل خاص وأثار الخوف في قلب الآباء كان في أسوأ حالاته بعد الحرب العالمية الثانية، وقد شهدت العقود الأخيرة في القرن العشرين، والأولى من القرن الواحد العشرين أيضًا نصيبها من المفردات اللغوية للأوبئة. ظهر “الإيدز” «AIDS»، اختصار لـ “متلازمة ضعف/نقص المناعة المكتسبة”«Acquired Immune Deficiency Syndrome» في عام 1982م، و”سارس” «SARS»، “متلازمة الجهاز التنفسي الحادة الوخيمة”«Severe Acute Respiratory Syndrome»  في عام 2003م، والوباء المعاصر كوفيد-19«فيروس كورونا 2019م«.

بعض مفردات الأوبئة في التاريخ

وباعتباره قاموسًا تاريخيًا، فإن معجم أكسفورد مليء بالفعل بالكلمات التي توضح لنا كيف تعامل الإنجليز الأوائل لغويًا مع الأوبئة التي شهدوها.

ظهر أقدمها في أواخر القرنين الرابع عشر والخامس عشر، عندما كان الطاعون الكبير من 1347م إلى 1350م، وتبعاته، التي قتلت ما يقدر بنحو 40 إلى 60 في المائة من سكان أوروبا. ليس غريبًا أن يكون الوباء حاضرًا دائمًا في الذاكرة الجمعية للأوربيين، بل ومصدر خوف وقلق لهم.

“الطاعون الأسود مقابل الموت الأسود” (Black Plaque vs. Black Death)

تم استخدام “الطاعون الأسود”«Black Plaque» ، الذي يطلق عليه من البثرات السوداء التي ظهرت على جلد الضحايا، لأول مرة في أوائل القرن السابع عشر، على الرغم من أن مرادفه المألوف “الموت الأسود” (Black Death)، لم يظهر حتى عام (1755م). كان الطاعون في القرن السابع عشر هو الذي أباد قرية بأكملها في “ديربيشاير” (Derby Shire) في إنجلترا (بريطانيا) التي عزلت نفسها ذاتيًّا «chose to self – isolate» أو حجرت ذاتها صحيًّا «chose to self – quarantine» ، حسب معجم أوكسفورد.

الوباء، الطاعون: “بيستلنس” (Pestilence)

مرض وبائي معدي مميت، وخاصة الطاعون الدبلي. و”الوباء”، أو “المرض القاتل”، تم استعارته من الفرنسية واللاتينية، وظهر لأول مرة في الكتاب المقدس، نسخة الراهب ويكليف «Wycliffe» للإنجيل، في سنة «1382م»، بعد عدة سنوات من الطاعون الكبير الأول السابق ذكره. المصطلح المتصل «pest»، آتٍ من الآفة «peste» في اللغة الفرنسية بعد ذلك بوقت قصير. وكلمة”pest” ، كما في “الحشرة التي تصيب المحاصيل” تنبع من تطور استخدام مفردة الطاعون الأصلي المذكور، وفي تطور لافت أيضًا أن الكلمة استخدمها ويليام شكسبير بمعنى “شيء مدمر أو ضار، كما في العبارة: “سأصب هذا الوباء في أذنه” (معجم مريم ويبستر)، ثم تطورت وأضافت لمعانيها معنىً ليوصف بها “الشخص المزعج” أو غير المرحب به، كما هو حال الحشرة «bug».

“بوكس” (Pox) مرض فيروسي

ظهر مصطلح “بوكس” «Pox»، جمع كلمة «pok»، الذي يشير إلى البثرة أو العلامة التي يتركها المرض على جلد المصاب، في عام 1476م، كمصطلح يطبق على عدد من الأمراض الفيروسية المعدية الخبيثة «viraldiseases»، التي تنتج طفحًا من البثور«pockmarks» ، التي تصبح مليئة بالصديد وتترك علاماتها بعد الشفاء، أشهرها مرض الجدري «Small Pox» المميت «تم تسجيله لأول مرة في (1560م). وفي اللغة غير الرسمية “الشعبية” pox تعني مرض “الزهري” «Syphilis»، وهو مرض جرثومي «بكتيري» مزمن ينجم بشكل رئيس عن طريق العدوى أثناء المعاشرة الجنسية، ولكن أيضًّا خلقيًّا عن طريقة إصابة الجنين أثناء الحمل أو الولادة. وفي أزمة وباء كورونا الحالية، تم تسجيل مئات من المفردات والمصطلحات الجديدة. ويمكن الرجوع إلى المقال المذكور أعلاه لبعض الأمثلة.

 

مناعة المجتمع بدلا من مناعة القطيع

* ما رأيك بدلالة بما يسمى بـ”مناعة القطيع” كما أعلنها رئيس الوزراء البريطاني قبل أن يصاب بالمرض ليس من الناحية الطبية في علم الوبائيات، وإنما في مجال علم اللغة التطبيقي؟

– يأتي مصطلح “مناعة القطيع” أو “حصانة القطيع” (Herd Immunity)، من ملاحظة كيف يشكل قطيع الجاموس دائرة، مع وجود قوي من الخارج يحمي الأضعف والأكثر ضعفًا في الداخل، هذا مشابه لكيفية عمل مناعة القطيع في منع انتشار الأمراض المعدية، أولئك الذين يتمتعون بالقوة الكافية للتلقيح يحمون أنفسهم مباشرة من العدوى، كما أنهم يحمون بشكل غير مباشر الأشخاص الضعفاء الذين لا يمكن تطعيمهم.

هذا هو التأصيل لـ”مناعة القطيع” لكن ظهر مصطلح ينافسه الآن وهو “مناعة المجتمع” (CommunityImmunity)؛ للابتعاد عن “حَيْوَنَة البشر، وسيحتاج وقتًا حتى يتم قبوله أو رفضه مقابل المصطلح الآخر المعتاد، والمنتشر في الإعلام، وهذا ينطبق على مصطلحات أخرى كالتباعد الاجتماعي والتباعد الجسدي، أو المقترح العربي “التفاسح” أو “المباعدة”.

 

إشكالية مصطلح “التباعد الاجتماعي”

* هل هناك جهود عالمية لمتخصصين في علم اللغة التطبيقي بخصوص جائحة فيروس كورونا؟ وما هي إن أمكن؟ ولماذا لم نرَ جهودًا إعلامية للمتخصصين في علم اللغة التطبيقية في عالمنا العربي بهذا الخصوص؟

– لم أرَ جهودًا منظمة إنما هي محاولات فردية هنا وهناك. أما السؤال الثاني، هو أن طبيعة الجائحة طبية بامتياز، فصار الكادر الطبي هو المتصدي الأول في الأزمة، فغابت باقي التخصصات، منها اللغويون، وتحديدًا التطبيقيين منهم، ما عدا المعجميين، كالعاملين في معجم وبستر، وأكسفورد، مثلًا، الذين يرصدون المفردات الجديدة في الأزمة أولًا بأول. والعرب حتى هنا غائبون؛ لأن هناك من يترجم، كمنظمة الصحة العالمية والمترجمون في الإعلام، وأحد أسباب هذه القضية ترجع إلى ما سميته “السلفية اللغوية”، يتناقش العرب في مفردة واحدة والغرب أضاف مئات المصطلحات في معاجمهم.

* انتشر مفهوم التباعد الاجتماعي، وصاحبه إشكاليات عدة في دلالته اللغوية؛ لأن ما حصل فعليًا لم يكن تباعدًا اجتماعيًا بقدر ما هو تقارب أو إعادة صلة للعلاقات الاجتماعية بشكل آخر، فالكثير أصبح يتواصل اجتماعيًا ربما أكثر من السابق من خلال أجهزة الجوال؟ والأمر الآخر، أريد لهذا المصطلح أن يبعد الاحتكاك المباشر بين البشر، والبعض رغم كونه ملتزمًا بالحجر المنزلي إلا أنه لم يلتزم بذلك داخل المنزل، السؤال: كيف تقرأ دلالة هذا المفهوم وآثاره في تحقيق أهداف الجهات الصحية منه؟

– تناولت هذه القضية في المقال الثالث في سلسلة “كورونا: البعد اللغوي”، وأعتقد أنه رغم قسوته إلا أنه أدى المطلوب منه، لكن ما يهمني هو دلالة المفهوم في المصطلح. “الابتعاد الاجتماعي” (Social Distancing)، في الأصل آتٍ من مصطلح “المسافة الاجتماعية” (Social Distance) علم النفس وعلم الأنثروبولوجيا ثم علم الاجتماع، وعلم اللغة التطبيقي، ثم علم اللغة السياسي، لكن في أزمة كورونا استخدم بصورة (الفعل)، وليس (الاسم)، وأول من استخدمه الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون. فالتقطه الإعلام الفرنسي ثم العالمي، مرورًا بالأوروبي والأمريكي.

التباعد الاجتماعي اعتمد على آليتين، إلغاء الأحداث والمناسبات والأماكن التي تجتذب الحشود (تجمع الأفراد) الاجتماعي، ووضع مسافة مادية (جسدية) بين الأشخاص عن عمد لتجنب انتشار المرض، بالبقاء على بعد ستة أقدام على الأقل أو مترين من الأشخاص الآخرين يقلل من فرص الإصابة بفيروس كورونا.

رغم شهرة مصطلح “التباعد الاجتماعي” إلا أن كثيرًا وجدوه قد يسبب عزلة اجتماعية، ففضلوا مصطلح “التباعد الجسدي”؛ لأن المطلوب يتعلق حقًا بالتفرقة الجسدية، وجميع أشكال الاتصال الجسدي التي تحصل في بعض ألعاب الرياضة والممارسات الاجتماعية كالمصافحة، والمعانقة، مع بقاء التكافل والتضامن الاجتماعي؛ لأن البشر كائنات اجتماعية تحتاج إلى التواصل.

موقف البعض، وخاصة الكنديين من استخدام المصطلح هو متميز من ناحية إنسانية واجتماعية، لكنه يعكس تمردًا على هيمنة لغوية أمريكية أو إنجليزية، ونظرًا لتزايد الضغوط «السياسية والأكاديمية» طلبت منظمة الصحة العالمية استخدام عبارة “الإبعاد الجسدي” بدلًا من “الإبعاد الاجتماعي” كوسيلة لمنع انتشار الفيروس التاجي الجديد (كوفيد-19) من البشر إلى البشر، وفي حين أن الحفاظ على مسافة جسدية كانت ضرورية للغاية وناجحة من حد الوباء، لا يعني أن على الناس أن تنفصل عن أحبتها وعوائلها اجتماعيًّا، ورحب بهذا التوجيه علماء النفس وعلماء الاجتماع (انظر التفاصيل في المقال المذكور أعلاه).

مصطلحات جديدة

* جائحة فيروس كورونا المستجد قد أدخلت مصطلحات جديدة في حياة الناس أو استعملت مصطلحات سابقة ولكنها أعطتها معنى تداوليًا مختلفًا كـ”كالحجر المنزلي” و”الإغلاق التام” وغيرها من المصطلحات، ما هي أبرز المفاهيم التي أفرزتها جائحة كورونا المستجد؟ وكيف تم تغيير دلالاتها التداولية؟

– المصطلح يحمل مفهوم، وتعدد المصطلحات معناه تعدد المفاهيم، وهذه أيضًا قضية غير مستقرة، حيث يعتمد على قبليات المتلقي في ترجمة أو وعي المفهوم، والسؤال يعكس هذه الرؤية.

أما عن تغيير دلالاتها التداولية تحتاج إلى دراسات، وهنا نقطة مهمة، ما يتداوله الإعلام، المكتوب والمرئي، ليس شرطًا أن يُكَوِّن لها حضورًا “تداوليًا” مؤثرًا بين عامة الناس؛ تحتاج وقتًا وسياقات لذلك.

“لغة كورونا” ومفرداتها، التي ظهرت في سياق الأزمة والتحشيد الوطني والعالمي والمهني للسيطرة على “العدو” الجديد”، تكتسب أهمية خاصة ليس لأنها تشكل إضافة كمية للمفردات والمنتجات التي يشتمل عليها المحتوى الثقافي بل لكونها أوجدت لغة عالمية مشتركة شملت تعريف التهديد الذي واجه الجنس البشري، وعبرت عن نوع وطبيعة وأشكال الاستجابات التي قامت بها الإنسانية لمجابهة هذا الخطر، وأنتجت مفاهيم وتحولات سريعة في مدركات وسلوكيات الناس، النفسية والثقافية، بمعناها الواسع الذي يشمل كل مجالات الحياة، فلا يمكن حصرها في إجابة أو مقالة، بل هذا يحتاج ربما إلى مجلدات.

بسبب جائحة الكورونا التي غيرت عاداتنا وسلوكنا واتجاهاتنا نحو أنفسنا والآخرين والعالم، أصبح الناس في شرق الكرة وغربها وفي شمالها وجنوبها يستخدمون مفردات ومصطلحات جديدة أو قليلة الاستخدام بكثافة غير معهودة، تجعل المرء يظن أن العالم قد تحول إلى مدرسة للصحة العامة أو معهد للعلوم الطبية. فلو سألنا الناس قبل أشهر من ظهور الكورونا بالسؤال عن الفيروسات والصحة العامة وطرق انتقال الأمراض والفرق بين الوباء والجائحة ومفاهيم الحظر والعزل والحجر، والمقصود بالتباعد الاجتماعي وعلاقته بالأمراض الفيروسية لوجدنا عدم معرفة غالبيتهم بها؛ الآن، في مختلف البلدان والثقافات أصبح الناس، كأنهم يتكلمون لغة واحدة، يعرفون المقصود من الوباء والجائحة، والخلية البروتينية وسبل تسللها إلى الجهاز التنفسي واستقرارها في الحنجرة قبل أن تصل الرئتين وتبدأ التكاثر داخل الحويصلات الناقلة للأوكسجين وتعمل على إتلافها.

أنواع المنظفات والكمامات والمعقمات بأسمائها المختلفة أصبحت سلعًا أساسية على قوائم المستلزمات للأسرة، والجميع يعرف حجم الإصابات في وطنهم ويتابعونها، وأحبوا “رقم الصفر” ويتبادلون التهاني حين رؤيته أو السماع به، ويسألون عن الإجراءات المتبعة في البلدان الأخرى لمجابهة الوباء والحد من انتشاره.

في “معركة الصراع” مع المرض الجديد أصبح الجميع، السياسيون والأطباء والإعلاميُّون، يستخدمون الكثير من المصطلحات العابرة للحقول والميادين المعرفية. “تسطيح المنحنى” (flatten the curve) أصبح أكثر المفاهيم التي تبعث على الارتياح بعدما كان المفهوم يبعث على التشاؤم في ميدان الاقتصاد أو السياسة، كقياس شعبية الحكومات أو إنجاز المؤسسات. المصطلح صار يعني الأمل في أن التفشي دخل في مرحلة الهدوء والسيطرة.

وعلى العكس مفاهيم علم الاجتماع وأنماط التفاعل، كالمسافة الاجتماعية، تعرّضت لانتكاسة جديدة بسبب جائحة كورونا؛ إذ أصبح لمفهوم “المسافة الاجتماعية” (social distance)، من خلال مفهوم وتطبيق “التباعد الاجتماعي” (social distancing)، دلالة ايجابية باعتباره وسيلة الوقاية الأنجع، ويعاقب مخالفها رسميًّا، إلى جانب هذه الاصطلاحات أصبح الناس يتابعون بعناية واهتمام أخبار الحظر والحجر والعزل ويدركون الفروق الدقيقة بينها، وقد تأقلموا، أو تبرمجوا لتأقلم معها ومع تبعاتها تحت “لغة الحرب”، التي أشرنا إليها آنفًا، وصارت “العزلة”، والاعتزال، مدعاة إلى “الإبداع”. هذا غيض من فيض كورونا في تغير وتجدد المفاهيم.

 

نعوم تشومسكي والتعبئة الاجتماعية

* حذّر نعوم تشومسكي (العالم اللغوي المعروف) من استخدام القوة في فرض حظر التجول وفي الإغلاق التام، واعتبر ذلك يهدد النظام الديمقراطي ويؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي، هل هذه القراءة له بصفته مفكرًا سياسيًا فقط أم أن وجهة نظره هذه مبنية على علم اللسانيات؟

– العالم اللغوي نعوم تشومسكي، وأبو علم اللغة الحديث، يتحدث في هذه الأزمة من منطلق فكري فلسفي، ولا ينطلق من مباني لغوية (لسانية) رافضًا للنظام الرأسمالي ومنتقدًا لليبرالية الجديدة، كما يسميها. حتى المصطلحات، وهي لغوية، يتعامل معها كمفاهيم، مثلًا: هو ينادي إلى ما يسميه “التعبئة الاجتماعية” (Social Mobilization) ضد كورونا، وهو مصطلح حربي (عسكري). وقد أشرنا إلى مفردات الحرب في السؤال رقم (9) أعلاه. لكن يبدو لي أنه لم يكن موفقًا في تحليله، وليته تناولها من البعد اللغوي ليتبعه اللغويون، بمن فيهم التطبيقيُّون. (وخلال الأيام المقبلة أتمنى أن أوفق كي يكون لنا تواصل معه حول هذا الموضوع، وسوف نطرح عليه بعض الأسئلة، وسأقوم بنشر اللقاء معه إذا تم).

 

“الازدواجيّة” و”التعدّديّة” اللّغويّة

* ما هو المراد بمصطلح “الازدواجيّة اللّغويّة” ومصطلح “التعدّديّة اللّغويّة” وأيهما يناسب استخدامه أكثر في توجيه الرسائل التوعوية والإعلامية الخاصة بفيروس كورونا المستجد بحسب رأيك؟

– ابتداءً، كإجابة سريعة، الازدواجية اللغوية تكون داخل اللغة الواحدة ذاتها، أمّا التعددية اللغوية فهي خارج اللغة، يميّز اللّسانيّون بين مصطلحي الازدواجيّة اللّغويّة (Diglossia) و”التعدّديّة اللّغويّة” (Multilingualism)، فالتّعبير الأوّل، لفظ مشتقّ من اليونانيّة؛ بمعنى “لغتان” أو “لسانان”. إنّ أوّل من أشار إلى الازدواجيّة اللّغويّة هو العالم الإغريقيّ يانيس بسيكاريس (Ioannis Psycharis)، في نهاية القرن التّاسع عشر، وقد قصد به حالة اللّغة الإغريقيّة، وبعد ذلك في ثلاثينيّات القرن العشرين، استعمل وليام مارساي (WilliamMarçais)، هذا المصطلح لوصف حالة اللّغة العربيّة، ولم يدخل المصطلح مضمار علم اللّغة الاجتماعيّ حتى سنة 1985م، حين وظّفه شارل فيرغوسون (Charles A. Ferguson)  في مقاله الكلاسيكي المشهور للإشارة إلى اللّغة العربيّة أيضًا.

يتلخص تعريف الازدواجيّة اللّغويّة باستخدام فرد أو جماعة ما لمستويَيْن لغويّيْن ﻓﻲ بيئة لغويّة واحدةٍ؛ أحدهما ذو اعتبار أرقى من الآخر، فيستخدم في الكتابة الأدبيّة والعلميّة والفكريّة وما إلى ذلك. والآخر يستخدم في لغة التّخاطب اليوميّ، ويُنظر إليه على أنّه أدنى من المستوى الأوّل. يطلق فيرغوسون “الصنف الرّفيع”H (High) أو اختصارًا (H) على المستوى الأوّل، أمّا اللّهجات الإقليميّة فيسميّها “الأصناف الوضيعة” (Low)، أو اختصارًا (L)، وخير مثال على ذلك، العامّية الدّارجة في العربيّة، فهي تستعمل في لغة الحديث اليوميّ ولا تستعمل في لغة الكتابة إلّا نادرًا. وقد وضع فيرغوسون اختلافات بين المستويين لتحقق الازدواجية اللّغويّة: في الوظيفة، الاعتبار، الرصيد الأدبي، التعلم، المعيارية، الثبات، والمباني (مع وحدة الانتماء للغة واحدة).

أما التعدّد اللّغويّ (Multilingualism)   فيتكون في أبسط حالاته من “الثّنائية اللّغوية” (Bilingualism)، التي تعني وجود لغتيْن متنافستيْن في الاستعمال تتمتّعان بمنزلة واحدة من حيث الكتابة والاستعمال الرّسمي واليوميّ في بلد ما، كما في الجزائر ولبنان، حيث العربيّة لغة مشتركة تتقاطع مع الفرنسيّة،  يجيدهما المتكلّمون بالقدر نفسه من الكفاية. وحال اللّغة الفرنسيّة والإنجليزيّة في كندا.

وهناك أسباب وعوامل كثيرة تؤدي إلى وجود لغتيْن أو أكثر في بيئة أو مجتمع ما، وهو موضوع يتناوله التخطيط اللغوي والسياسة اللغوي (Language Planning and Language Policy)، إضافة إلى مادة الصراع اللغوي، أي “الصّراع بين اللّغات” (بما فيها اللّهجات).

“الازدواجيّة اللّغويّة” أو “التعدّديّة اللّغويّة” في زمن الكورونا؟

الازدواجية اللغوية تخاطب المتكلمين بلغتهم، فمثلًا عندنا في المملكة العربية السعودية، رسائل وزارة الصحة أو الداخلية تتم باللغة الفصحى الحديثة، وبما أن الشعب متعلم فهو يقرأ فيكفي بمخاطبته باللغة (H). أما نظرًا لوجود عمالة أجنبية ومقيمين بعدة لغات فلا بد من الخطاب المتعدد لغويًّا.

من مراقبتي السريعة؛ وجدت أن كل الدول قدمت معلومات دقيقة حول فيروس كورونا إلى المواطنين جميعًا بما في ذلك الّذين ينتمون إلى جنسيّات وإثنيّات مختلفة؛ تتضمّن هذه الموارد صحائف الوقائع (fact sheets)، ورسومًا بيانيّةً متعدّدة اللّغات والمستويات اللّغويّة. إنّ الوباء لم يغيّر في لغة الخطاب البيني، بل وفّر أيضًا مساحة لمنظور جديد حول التنوّع اللّغويّ وأثره في السّلوك الصّحيّ. وقد ألحّت الضرورة على تغيير السّياسة اللّغويّة في بعض الدول، كالصين مثلًا، والمغرب العربي، حتى عندنا في المملكة التي تعتمد اللغة العربية اللغة الرسمية، لكنها، في هذه الأزمة، كما في موسم الحج، انتشرت الرسائل للجاليات والعمالة المتواجدة، حتى أن بعضها يطلب من المواطن تمريرها لمن يعرف من يتكلم لغة، كالبنغالية، مثلًا.

وفي هذا الإطار، يعرض موقع منظّمة الصّحّة العالميّة، منشورات متعدّدة اللّغات ما يضمن وصول المعلومات الصّحيّة إلى الأشخاص الّذين يحتاجونها وباللّغات الّتي يمكنهم فهمها. وهذا يجعل الوصول إلى المعلومات الصّحيّة أكثر إنصافًا وفعاليّة.

باختصار، التّواصل القائم على التعدّد اللّغويّ، يسدّ الفجوات الاجتماعيّة ويعزّز التّفاهم بين النّاس. كما يحقّق نتائج صحّيّة أفضل في جميع أنحاء العالم، وبهذه الطريقة، يعد التّواصل المتعدّد اللّغات، أداة أساسيّة لتحسين الصّحّة العالميّة، وتسهم هذه الاستراتيجية اللّغويّة في الوصول إلى وضع أفضل لمواجهة التّحدّي الرّاهن، مع انتشار فيروس كورونا، وذلك من خلال تعزيز النّظم الصّحيّة وتوفير الرّعاية المنصفة للجميع.

 

الإعلام التوعوي

* بشكل عام، ما رأيك بالرسائل الإعلامية والتوعوية التي قامت بها الجهات الصحية بالمملكة العربية السعودية من ناحية علم اللغة التطبيقي؟

– أولًا، لابد من القول إن الإعلام الصحي التابع لوزارة الصحة في المملكة نجح نجاحًا باهرًا بأداء متميز، إذ قامت وزارة الصحة بحملة توعوية، ضد فيروس (كورونا) الجديد، تحت شعار “الوقاية من كورونا”؛ تهدف إلى توعية كافة أفراد المجتمع بمختلف شرائحهم وفئاتهم عن هذا الفيروس، وإرشادهم إلى السلوكيات السليمة التي تسهم – بإذن الله – في الوقاية منه والحد من انتشاره. واستخدمت الحملة عدة وسائل منها: لوحات الطرق، والشاشات الإلكترونية في صالات المطارات، وتكثيف النشر التوعوي عبر القنوات الإذاعية والتلفازية، وإعلانات منصات التواصل الاجتماعي.وبالتعاون مع هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات بثت وزارة الصحة، مليارات الرسالة النصية التوعوية (SMS) عن فيروس (كورونا) الجديد، موجهة إلى مختلف شرائح المجتمع من المواطنين والمقيمين، وبلغات عدة عددها ٢٤ لغة. وقد اشتملت الرسائل على نصائح وإرشادات للتعامل مع الفيروس الجديد ومنع انتشاره، ومحاربة الشائعات حوله، وأهمية غسل اليدين بالماء والصابون، والجلوس في البيت، وتجنب الازدحام، ووضع مسافة متر ونصف بينك وبين من حولك، بالإضافة إلى تطبيق (موعد) للكشف عن أعراض الفيروس. وإعلانات منصات التواصل الاجتماعي.

 

رسالة علم اللغة التطبيقي

* ختامًا: ما الذي يمكن أن يقدمه هذا العلم (علم اللغة التطبيقي) من أجل جعل الرسائل التوعوية والإعلامية تؤثر في الناس بشكل أكبر؟

– بما أن “رسائل التوعية” هي في الأساس عملية تواصلية، فعلم اللغة التطبيقي يتناولها من منظور مصطلح “التواصل” (communication). كما في معجم لونغمان لمصطلحات تدريس اللغة وعلم اللغة التطبيقي (Longman Dictionary of Language Teaching and Applied Linguistics)، التواصل في علم اللغة التطبيقي هو تبادل الأفكار والمعلومات، وما إلى ذلك، بين شخصين أو أكثر، عادة ما يكون هناك فعل أو تواصل واحد على الأقل في أي اتصال، ويتم إرسال نص (رسالة) لشخص أو أشخاص تستهدفهم هذه الرسالة (المتلقي)، يتم دراسة الاتصال من عدة من وجهات نظر لعلوم مختلفة، وغالبًا ما يُنظر إليه على أنه علم في حد ذاته، وهو محوري في اللغويات الاجتماعية (Sociolinguistics)، واللغويات النفسية Psycholinguistics))، ونظرية المعلومات (Information Theory)، والعلوم المتفرعة منه أو المرتبطة به.

فعليه يتعامل علم اللغة التطبيقي مع “رسائل التوعية” من مفهوم التواصل مستفيدًا من مفاهيم وآليات العلوم المذكورة، وعلم اللغة التطبيقي، كما قلنا في إجابة عن سؤال سابق، يتعامل مع هذه العلوم وغيرها لدراسة أي ظاهرة أو حل مسألة. وباختصار مكثف.

أقول: كما بينا في السؤال الأول، إن علم اللغة التطبيقي هو علم متعدد العلوم والفنون، فحين يأتي لتعامل مع قضية معينة تنبري لها تخصصات عدة لتناول أبعادها المختلفة؛ فمثلًا: في قضية “الرسائل التوعية اللغوي التطبيقي يدرسها بأدوات علم المعلومات ونظرية المعلومات (Information Theory)، الذي يتناول الرسالة وأمورها، وكذلك علم لغة النص (Text Linguistics) والخطاب (Discourse Analysis)، لتحليل شكل ومحتوى والرسالة كنص لغوي، وكذلك “تحليل المحتوى” ((Content Analysis، لكن ما يهمنا هنا هو أن في علم اللغة التواصل بين الأفراد يقوم على ثلاثة عناصر: المرسل إليه أو المتلقي Receiver/Recipient))، الرّسالة (Message) وقناة الاتّصال (Channel)، عوامل نجاح رسائل التوعية، كالتّوصيات والإرشادات الصّحيّة، يتطلب فهم لطبيعة ووظيفة كل عنصر.

أمّا من حيث المرسل إليه، فهو فئات عمرية وتعليمية (ثقافية) ولغوية، وهو المستهدف بالوعي والفعل، (تغيير السلوك)، وتعتبر الإرشادات الصّحيّة خير أنموذجٍ لهذا “الخطاب التي يهدف إلى التّأثير بالمتلقّي، وإثارته وإقناعه وإثارته بهدف “دفع المرسل إليه إلى “الفعل” (action). فيخاطب مباشرة في الرسالة (message)، بالوسائط المتعدّدة؛ أي قناة الاتّصال (channel). فلا بد من إيجاد عامل مشترك بين هذه الفئات (الجماعات)، وهذه عملية يدخل فيها علم النفس وعلم الاجتماع، وعلم العلاقات العامة (Public Relations)، دور علم اللغة (التطبيقي) هنا هو المساعدة في لغة الخطاب المناسبة، وهذا يكون في الرسالة، شكلًا (Form) ومحتوىً (Content).

أما من حيث الرسالة ومحتواها أي اتّصال أو تواصل هو بالأساس رسالة (مرسلة) وقاعدة كلّ اتّصال هو الوظيفة المرجعيّة (Referential Function)، إلّا أنّ السّياق أو المرجع يبقى العنصر الأهمّ في كل اتّصال وهو يؤثّر في المعلومة الصحيّة على وجه الخصوص (الرسالة)، بمعزل عن قناة الاتّصال، والّتي يمكن أن تأتي بدور سلبيّ؛ لذا فعالية الوظيفة تكمن في معلومة صحيحة، دقيقة، وموضوعيّة، ويمكن ملاحظتها والتأكّد من صحّتها. هذه المعلومة، بهذه المواصفات لا بد أن تصاغ بلغة مباشرة وسهلة وقصيرة، مستعملةً لهذا الغرض تعابير وأساليب متداولة في الحياة اليوميّة، ومشتركة بين أفراد المجتمع الواحد. مثلًا، التّحذير من الملامسة والمصافحة والتّقبيل (وهي عادات تختلف من مجتمع وآخر) التي تؤدّي إلى انتقال الفيروس، يهدف إلى إيقاف هذه السّلوكيّات في هذه المرحلة الحرجة، يتطلّب استخدام المرسل لغة المجتمع ومفرداتها الخاصّة، إضافة إلى تكرارها يهدف إلى تثبيت المرسلة وما تحمله من معلومات صحيّة أساسيّة لحماية الفرد والمجتمع. وهكذا مع سلوكيات أخرى مستهدفة كغسل اليديْن والتّعقيم، وغير ذلك.

وكما قلنا إن الخطاب في الإرشادات الصّحيّة تبرز فيه “الوظيفية الإفهاميّة” (Conative Function) التي تهدف إلى التّأثير بالمتلقّي، وإثارته وإقناعه وإثارته. في هذه الوظيفة، يغلب استعمال الأمر والنّداء والتّحذير، وهذا الأسلوب اللّسانيّ، يركز على التّأثير البرغماتيّ (الذرائعي) (pragmatic) لا التّأثير العاطفي (emotional)؛ بهدف “دفع المرسل إليه” إلى “الفعل” (action)، فيخاطب بـ”ضمير المخاطب” مباشرة في الرسالة (message).

وهنا يأتي دور التعدّديّة اللّغويّة، فالرسائل “متعدّدة اللّغات” تضمن وصول المعلومات الصّحيّة إلى الأشخاص الّذين يحتاجونها وباللّغات الّتي يمكنهم فهمها، وبها تتحقق العدالة وحق الحصول على المعلومة الصّحيّة الضرورية، كما يجعل الوسيلة ذات فعاليّة عالية، إذا لم تكن تامة، وأيضًا، تقوم اللّغة المستخدمة للمتلقي المستهدف بالوظيفة الانتباهيَّة (Phatic Function) ، حيث بها يتم تأكيد الاتصال وتثبيته أو إيقافه.

وأعتقد هذه الرسائل تحتاج إلى دراستها وتقويمها عن طريق استخدام “تحليل المحتوى” (Content Analysis)، وهو طريقة تستخدم لتحليل وجدولة تكرار حدوث المفردات والموضوعات والأفكار والآراء والجوانب الأخرى لمحتوى الاتصال الكتابي والمحادث، وأنا الآن بصدد القيام بهذه الدراسة وأتمنى أن تنتهي قريبًا.

أما من حيث القناة (وسيلة الاتّصال) فانتشارها وسهولة الوصول إليها أو الحصول عليها، يساهم في فعالية أدائها، إضافة إلى تعددها، كما فعلت حملة وزارة الصحة: رسائل الـ SMS في الهواتف المتنقلة (الجوالات)، ومنصات التواصل الاجتماعي، الصحف المحلية، ومواقع الإنترنت للمؤسسات الحكومية، ولوحات الطرق، والشاشات الإلكترونية في صالات المطارات، والإذاعة والتلفزيون، فتوحد الرسالة فيها يعطي المحتوى زخمًا وتثبيتًا؛ للحصول على انتباه (attention) مستمر عند المتلقي الذي يؤكد عليه علم اللغة النفسي، وعلم اللغة الإدراكي (Cognitive Linguistics) للتعلم ولتغيير السلوك.

 

*****

الدكتور أحمد بن فتح الله التاروتي في سطور

  • مواليد جزيرة تاروت عام 1374هـ.
  • حاصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة الملك سعود بالرياض.
  • حاصل على درجة الماجستير في علم اللغة التربوي من جامعة بنسلفانيا.
  • حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لوس أنجلس.

شغل الكثير من المناصب الأكاديمية:

  • معيد ومحاضر في جامعة الملك سعود بالرياض.
  • أستاذ مساعد في جامعة الملك فيصل بالأحساء.
  • أستاذ مشارك في جامعة الملك فيصل بالأحساء.
  • أشرف على العديد من رسائل الماجستير، كما نشرت له أبحاث في علم اللغة التطبيقي.

هو الآن متفرغ للأبحاث وتحكيم العلوم اللغوية.

التعليقات مغلقة.