Estimated reading time: 19 minute(s)
- الإبداع قائم على التأمل وأكثر شيء أتأمل فيه هزائمي أمام الزمن
- الإرادة محاولة لتحقيق الذات ومحركها الرئيس داخلي الشعور العميق بالأشياء
- الهوية متحركة وليست جامدة والمعرفة الرافد الأهمّ لإعادة تشكيل هويتي
- مثولي في حضرة الجمال هو ما يبث الحياة في أعماقي
- كل الأحاسيس التي استوطنت في قصائدي يمكن تسميتها “تجارب روحية”
- أستعيد الاتصال بذاتي عبر الشعر فكل قصيدة هي بوصلة باتجاهها
- النشوة الحقيقية باكتمال كتابة القصيدة تستمر أبدية تتناقلها الأجيال
حوار : حوراء رضي
شاعر يعزف بالحرف على غيتاره المعنى مسجلًا رسالته الشعرية في قصائده، اختار الشعر كهفًا للخلوة والاختفاء عن المتطفلين؛ واستحال الجسد في شعره روحًا سماوية ناطقة، رافعًا الجسد إلى ما بعد المجاز.. إنه الشاعر جاسم الصحيح، الذي يرشدنا بالشعر إلى أعماق سحيقة في بواطننا، مستدرجًا المعنى وراحلًا، تاركًا اضطراب التساؤل عن حقائق الأشياء، فالحقيقة كما يقول محمود درويش “الحقيقة شخصية في القصيدة لا هي ما هي أو عكسها إنها ما تقطّر من ظلّها”.
يقول “جاسم” في إحدى قصائده:
لا يعرف الناس مني غير حنجرة
يا ليتهم عرفوا ما خلف حنجرتي
هنا، ومن خلال هذا الحوار، أريد لمحبي جاسم أن يعرفوا شيئًا مما خلف هذه الحنجرة، وأن يروا جاسم الصحيح الإنسان، جاسم الذي يبدو ظله في الشعر خليفة على الناس، ولكن لم يزل يخبئ في الرجل الذي صنع الظل إنسانًا طافحًا بإنسانيته.
التأمل وصناعة القصائد
* التأمل هو طريقتنا في التواصل مع الحياة، فكيف وفيم يتأمل جاسم؟
- الإبداع الإنساني قائم على حقيقتين يتمتع بهما الإنسان: حقيقة التأمل وحقيقة القدرة على التخيل والإيحاء.
لذلك، الإنسان بطبعه الخَلقيّ كائنٌ متأمِّلٌ، ولا يمكن للمبدع أن يصنع إبداعه دون أن يحمل معول التأمل، وينطلق إلى أرض الواقع، ويحفر ويحفر ويحفر حتى تتفجر ينابيع الإبداع من أعماق الحياة.
بالنسبة لي كما بالنسبة لجميع الشعراء؛ أتأمل في الحياة كل الحياة.. أتأمل فيما وراء الأشياء.. أتأمل في التاريخ.. ولكن أكثر شيء أتأمل فيه هو هزائمي أمام الزمن.. هذه الهزائم هي مخزن من الذخائر التي أستخدمها في صناعة القصائد.
الشعرُ ما كان في عُمْرِي سوى لغةٍ
جاعتْ فأطعمتُها أشهى خساراتي
* إن كانت سيرة الإنسان صنيعة اختياراته، واختياراته صنيعة إراداته، فما الذي يحرك إرادتك؟
- مسألةُ أنَّ سيرة الإنسان صنيعة اختياراته تبقى مسألةً فيها اختلاف، فالميلاد والموت واختيار الأب والأم.. كلها قضايا خارج اختيارات الإنسان.
لكن لنفترض أنّ ما تبقَّى من سيرة الإنسان هي صنيعة اختياراته، وأن اختياراته صنيعة إرادته؛ بناء على ذلك، أرى أن المحرّك الرئيس للإرادة في داخلي هو الشعور الداخلي العميق بالأشياء.. هذا الشعور هو الذي يتحوّل إلى رغبة تدقُّ بمطارقها على رأسي من أجل أن تتحوّل من طاقةٍ كامنة في النفس إلى طاقةٍ متحركة في الواقع.
الإرادة أيضًا يمكن أن تكون محاولةَ الإنسان تحقيقَ ذاته، وأنا دائمًا ما أحاول تحقيق ذاتي عبر المثاقفة مع الأشياء من حولي، حيث المثاقفة ترقى بالمعنى التقليدي للأشياء إلى مفاهيم سامية.
الهوية والمعرفة
* لا تنفك هوية الإنسان عن إعادة تشكيل نفسها عبر مراحل حياته، فما هي الروافد التي تشكّل هويتك؟
- سؤال الهوية هو سؤال الوجود في جوهره وحقيقته، وهو سؤال تتجدّد إجابته على مرّ الأيام وليس العصور فقط، وذلك لأنّ الإنسان كائن حيّ يتغير على مدار الوقت وينطبق عليه ما ينطبق على النهر الذي قال عنه ذلك الفيلسوف اليوناني القديم –أظنه- هيراقليطس “أنتَ لا تنزل النهر مرتين”.. أيْ أن مياهه في جريان مستمر وتغيير دائم؛ فالزائر للنهر سوف يرى نهرًا جديدًا في زيارته القادمة؛ لكنني أضيف هنا إلى كلام الفيلسوف، أن الزائر أيضًا لن يكون هو الذي زار النهر في المرة الأولى، حيث إنّ مياه الحياة تجدّدت في داخله الإنساني وأصابه التغيير كما أصاب النهر.
هذا التقديم يوحي لنا أنّ الهوية متحركة مثل رمال في مهب العواصف الزمنية، وليست جامدة كالصخر في الجبل، فهي تتحرك وتتسع وتأخذ أبعادًا في الزمان والمكان. أتذكر أنني كتبت قبل ثلاثين عامًا قصيدة، وقلت في مقطع منها:
أحلم في وطنٍ يختصر الأوطان
أحلم في لون يختصر الألوانْ
أحلم أن تتبدل في الماءِ علاقته بالطوفانْ
أحلم أن تتبدل في الريح علاقتها بالطغيانْ
هذه أحلام واقعية وإن جاءت في صور رمزية نظرًا لأنها تتجلى في هيئة شعر، ولكنها محاولة لتفكيك الأشياء وإعادة تشكيل العالم في أحسن تقويم، ومنحه هويّةً واحدة قَوامها الحب، وجوهرها الإنسانية المحضة.
بناء على كل ما تقدم؛ أستطيع أن أقول إن الرافد الأهمّ الذي يعيد تشكيل هويتي على امتداد الوقت هو المعرفة، حيث إنها لا نهائية في وعيها للعناصر الإنسانية التي تشكل الهوية.. لذلك، كلما ازدادت معرفتي بالعالم؛ اتسعت هويتي فيه وانتمائي إليه، فالوطن مثلًا، الذي كان في الأصل مجرد نخلة، اتسع وأصبح خارطة وحدودًا، وسوف يتسع حتى يصبح الكون كله.
* ما الذي يبث الحياة في جاسم؟
- مثولي في حضرة الجمال هو الذي يبث الحياة في أعماقي؛ الجمال سواءً كان ظاهريًا أو باطنيًا.
في حضرة الجمال، أحيا حياة الشهداء؛ فالجمال يقتلني ويحييني حياة أبدية في لحظة واحدة. في حضرة الجمال، أعيش كل المعاني السامية التي وردت في الأدبيات الصوفية، فتارةً أعيش حالة الحلاج وأصبح الفراشة التي لا تكتفي بالحوم حول اللهب، وإنما تنتهي للوقوع فيه والتوحد به حد الفناء من أجل ولادة خالدة.. وتارةً أخرى، أعيش حالة البلبل المغرم بالوردة كما عبّر عنها مولانا جلال الدين الرومي، حيث البلبل العاشق هو روحي الهائمة، وحيث الحبيبةُ الوردةُ هي هذا الجمال الذي يتجلى ويسبح بي في ملكوته.
الجمال هو الذي يبث الحياة في روحي.. هذا الجمال الذي يطلع لي من امرأة أو وردة أو شجرة أو قلب أو لون أو نغم أو حرف أو إزميل أو ناي أو أيّ عنصر من عناصر الحياة؛ بما في ذلك العناصر التي قد يراها الناس قبيحة.
تجارب روحية
* أن تكون حيًا؛ يعني أن تمتلك القدرة على خوض التجارب.. حدثنا عن تجارب “الصحيح” الروحية ودور الشعر فيها..
- سؤالكِ عن التجارب الروحية سؤال غريب حقًا، فالتجربة الروحية عادةً ما تبدأ بصراع مع الإيمان الداخلي وتقود إلى إيمان جديد. وكما تعلمين فإن حياتنا الاجتماعية فقيرة جدًا في هذا الجانب، والتجارب الروحية على هذا الصعيد تمثّل شكلًا من أشكال التابوهات؛ لكن رغم ذلك، لو افترضنا أنّ القصائدَ مشاريعُ روحية أو تجارب روحية صغيرة حيث الشعر هو عصارة الألم المعرفيّ صافيةً مقطَّرةً في زجاجة اللغة.. لو افترضنا ذلك، فكل الأحاسيس التي انبثقت من داخلي واستوطنت في قصائدي، سواء أحاسيس حب أو فرح أو حزن أو أمل أو يأس أو غير ذلك، جميعها تجارب روحية، وإنْ كنت أميل إلى تسميتها تجارب إنسانية.
طريق الشاعر
* يضعف اتصال الإنسان بذاته أحيانًا في طوفان الحياة اليومية، فكيف يستعيد جاسم اتصاله بذاته؟
- أعتقد أنني أستعيد الاتصال بذاتي عبر الشعر الذي يمثّل رحلة باتجاه الذات الضائعة في متاهات الكون. كل قصيدة هي بوصلة باتجاه الذات تقود أفكارنا خطوة إلى معرفة حقيقتها الغامضة. قصيدةٌ تتَّكل على قصيدةٍ مثلما تتَّكل الموجةُ على الموجة في البحر من أجل تكوين التيَّار. هذا هو طريق الشاعر في البحث عن ذاته، هو طريق الاستنارة ومسلك الحكمة الذي مشى عليه “بوذا” بعد أن خلع نياشين الملوك وأزياء الأمراء وذهب في رحلة الروح لابسًا مسوحَ الزهَّاد يبحث عن الحقيقة.. ولكن الشاعر يفعل كل ذلك التوهان في صحاري اللغة.
* لكل منا طقوسه التي يهرب إليها من كل شيء، فما هي طقوس جاسم؟
- هذا سؤال مفتوح بلا حدود؛ لذلك لا يمكن الجواب عليه مفصلًا. لكنني أعتقد أن القراءة هي أهم طقوسي التي أراني فيها قريبًا مني، وربما ملتصقًا بي؛ لأنني أحقق لنفسي شرط الحرية فيما أقرأ وأطلقها على شراع الوعي إلى حيث شاءت من بحور المعرفة، ولا أعود بها إلى شاطئ الأمان.. طقس الحرية أخطر طقوس الحياة.
النشوة الحقيقة
* كيف يصف جاسم إحساسه بعدما تكتمل القصيدة، ولا يبقى من لذة السكر إلا آثار ما بعد الثمل؟
- لا أرى في كتابة القصيدة لذة السكر التي تنتهي بعد إكمالها كما تقولين.. وإنما أرى العكس تمامًا، ففي وقت كتابة القصيدة، نحن نعدُّ الخمرة، كأننا نعتصر العنب في خوابي الحروف. أما لذة السكر أو النشوة فهي التي تأتي بعد أن ننتهي من كتابة القصيدة وإعداد خمرتها.. وهنا تأتي فترة الشعر الذي يمثّل النشوة الخالدة في القصيدة التي انتهينا من كتابتها.. النشوة الحقيقية تبدأ بعد الانتهاء من كتابة القصيدة وتستمر نشوةً أبدية تتناقلها الأجيال، فالقصائد التي انتهى من كتابتها الشعراءُ منذ اليوناني هوميروس إلى الروماني فيرجيل إلى العربي امرئ القيس مرورًا بالمتنبي إلى عصرنا الحالي.. كل هذه القصائد ما زالت خالدة في نشوتنا بها كلما قرأناها وتسربت دهشةُ معانيها إلى حواسّنا.
حوارات الجريدة في الفترة الأخرة جيدة وتتفوق على حوارات الصحف الورقية ومقدماتها تصلح لبرامج تلفزيونية لاحظت مقدمات المعيوف ومقدمة حوراء رضي تتشابه كنت افكر ان الحوار لشخص واحد من شدة التشابه الاشتراك في الطريقة،، واضح ان المدرسة واحدة بورك في نشاطكم