محمد الملحم يكتب: قراءة في كتاب آل ملحم ومحمد أفندي.. صفحات من تاريخ الأحساء
عن حقبة احتلال قوات محمد علي باشا للأحساء عام 1255هـ..
Estimated reading time: 20 minute(s)
بقلم: الدكتور محمد بن إبراهيم الملحم
يتحدث هذا الكتاب، الصادر حديثًا (1442ه – 2021م)، عن حقبة عصيبة من تاريخنا الوطني إبان الدولة السعودية الثانية وما بين دوريها الأول والثاني، لمؤلفه الباحث عبدالله بن أحمد الملحم، الذي أعرف مقدار اهتمامه بالتوثيق وعنايته بالتاريخ ودقته في الكتابة معتنيًا بما يكتب محتاطًا لكل ما يرد على يراع قلمه، حتى خرج كتابه بإتقان أهل الصنعة، حيث أحسن العمل وجوّده على النحو الذي يليق به كبحث علمي تجلى ككنز معلوماتي ثمين يدهشنا سبكه وعرضه وحسن توثيقه لكتابه الذي استقى مضمونه من مخطوطات ووثائق مهمة ومن مطالعته لمراجع وتاريخ الحادثة التي تصدى لتدوينها، بيد أني لم أتوقع أن ينحو بكتاب تاريخي توثيقي منحى أدبيا على النحو الذي قدم به أطروحته ليجعلها محورًا لمتحفه التاريخي الفكري في سرده للوقائع والشخصيات والأحداث بل والجغرافيا المتزامنة مع هذه الحادثة التي تجعلك تعيش واقع الأحساء في تلك الفترة فتتنفس هواء عاداتها وتشم عبير أحيائها وأجوائها السياسية والاقتصادية والثقافية وكأنك تعيش بين أهلها حينذاك، بعد أن أحال الكاتب قلمه إلى عدسة مخرج سينمائي أنطقت كلماته بصور إبداعية مشوقة، وقطع فنية متقنة في سياق أدبي لم يحل دون رغبته في أن يكون كتابه بحثًا علميًا موثقًا.
أحداث الكتاب تدور حول تسلط حاكم الأحساء من قبل خورشيد باشا وتهديده آل ملحم إذا لم يزوجوه إحدى بناتهم التي اشتهرت بالجمال، فكلفوا مجموعة منهم قامت باغتياله في جنح الدجى وسجلت القضية ضد مجهول ونجت البنت من شره، كما خلصوا البلاد والعباد من ظلمه وجبروته.
ويتعرض الكتاب للحادثة وكثير من شخصياتها ووقائعها بالشرح والتوضيح، مستعرضًا عشرات الوثائق المهمة التي أثرت موضوعه، من خلال عناية الكاتب بتصوير الخلفية السياسية والجغرافية للأحساء ودور العثمانيين الذين تسلطوا بقوتهم وجبروتهم على أهلها وساموهم سوء العذاب بإتاواتهم واستيلائهم على خيراتها.
كما يشرح المؤلف مصادر كتابه مثل تواريخ: ابن بشر وابن عيسى وابن بسام والروايات الشفهية ووثائق مصرية وأخرى محلية، وقد وضح بشيء من التعليق المهم كيف تعامل مع هذه المصادر، ثم ذكر بعض المصادر التي أوردت الحادثة وتعرضت لها بشكل أو بآخر، ومن الجميل أنه انتقل بعد ذلك إلى سرد حوادث مشابهة لحادثة الكتاب وكيف تعرضت فتيات لطلب الزواج القسري من أصحاب سلطة؛ مما أوقع قومها في حرج شديد ترتبت عليه معارك أو حوادث قتل، وشمل ذلك أهم العهود لعرب ما قبل الإسلام والدولة الأموية والعباسية والفاطمية وحتى وقت الاحتلال الفرنسي لمصر.
وبعد ذلك يمهد الكاتب للواقعة بذكر المشهد التاريخي بادئا بحملات محمد علي باشا ضد الدولة السعودية الأولى في الدرعية وحتى عام 1254هـ حينما استولى العثمانيون على نجد والأحساء وتم نفي الإمام فيصل إلى مصر، وفي الأحساء تم تعيين أحمد السديري أميرًا لها ثم عزلوه سريعًا وعينوا محمد أفندي 1255هـ حاكمًا عليها وهو شخصية الجور التي يتعرض لها الكتاب، وبهذا العرض يضعك الكاتب في الإطار التاريخي للحادثة بكل وضوح وتناسق، كما يزودك ببعض التفاصيل التي تجعلك تعايش تلك الفترة وكأنك أحد أفرادها.
يلي ذلك بيان حال الأحساء وأهميتها الجغرافية، ثم عرج على معاملة العثمانيين بفرض الضرائب الباهظة على أهل الأحساء، وبعد ذلك تحدث عن شخصيات الحادثة مبتدئا بشخصية محمد أفندي الجائرة، ثم يستعرض الكاتب شخصية الفتاة الملحمية كاشفًا عن اسمها “لطيفة العبدالعزيز آل ملحم” وذلك لأول مرة فالمراجع التي روت الحادثة لم تذكر ذلك، ولأن المؤلف من أسرتها فقد مكنته الروايات الشفهية من توثيق اسم هذه المرأة، التي عاشت خمسة وثمانين عامًا (رحمها الله) وعرفت بالحكمة والشخصية المؤثرة والذكاء وحسن التدبير، وقد أسهب في ذكر أزواجها وأولادها وأخبارها مستقيًا من الوثائق المحلية المتوفرة لديه والروايات الشفهية من كبار الأسرة بل حتى صفاتها الخَلقية من جمال بارع، لا سيما أن المؤلف أخذ معلوماته عنها من شخصيات نسائية ممن عاصرن هذه المرأة، وهذه ميزة خاصة لهذا الكتاب لا تتسنى لغيره.
ثم يأتي المؤلف على ذكر بطل هذه الحادثة وهو والدها الشيخ محمد العبدالعزيز آل ملحم، والذي قتل لاحقًا في معركة الوجاج 1287هـ هو وابنه وصهره (زوج ابنته) على خيولهم في طليعة جيش الإمام عبدالله بن فيصل بن تركي، وكان قتلهم لخيانة وقعت بين الصفوف.
وبعد ذلك يتحدث الكتاب عن أسرة آل ملحم من حيث انتمائها القبلي وموطنها في الجزعة جنوب الرياض ومن ثم انتقالها إلى الأحساء وأدوارها السياسية في عهد بني خالد والدولة السعودية الأولى والثانية وعلاقتها بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ووزراؤها ورجالاتها ومكانتهم وأدوارهم الإدارية والاجتماعية.
ثم يهتم الكاتب بتصوير المشهد الجغرافي لمنطقة الأحداث وهي الأحساء بموقعها وتعداد سكانها آنذاك ونخيلها وأوصاف أحيائها وحصنها الرئيس في الكوت، ثم يصف بعد ذلك مشاهدة الحاكم المتسلط محمد أفندي لبنت الملحم التي كانت في الخامسة عشرة من عمرها تلعب مع بنات عمها في حي آل ملحم، وذلك إثر جولته في الحي؛ لتبدأ بعدها أحداث القصة في سؤاله عنها ثم طلبه يدها وبعد ذلك الاعتذار إليه أنها مخطوبة لابن عمها المسافر إلى الهند للتجارة؛ بيد أن محمد أفندي يكتشف من عيونه التي تشي بالأخبار أن ابن العم المزعوم موجود بالأحساء وليس في الهند مما أوغر صدره فأرسل لوالدها كتابًا يهدد فيه بأخذها زوجة بالقوة وقتل من يعارض من آل ملحم وأخذ أموالهم، ثم يجتمع والد الفتاة بقبيلته آل ملحم ويسلمهم الكتاب، قائلا إن ابنتكم ستؤخذ “سبية”؛ مما أثار حفيظتهم وأشعل نار الغضب في صدورهم فأعدوا العدة لقتل الحاكم لا محالة وتخليص أنفسهم والبلاد من شره، وأتى الكتاب في هامشه على محاولة أولى لقتله عبر نفق إلى غرفة نومه ولم يكتب لها النجاح، وقتل بسببها أحد أفراد آل ملحم، (وقد سمعت شخصيا هذه الرواية أيضًا)، بينما شرح في المتن مسرح الحادثة مبينًا كيف تم جمع المعلومات عن تحركات الحاكم وطريقه الذي يسلكه قادمًا كعادته الأسبوعية من عين نجم بعد الاستحمام فيها ليعدوا له الكمين في منطقة نخيل وصفها الكتاب بدقة ووصف وقائع الكمين ومشهد الحاكم وحراسه يمشون بالليل ومعهم مشاعل الإضاءة وكيف تم تصويب الحاكم بعدة طلقات نارية أردته في الحال وفرار أبطال الاغتيال من موقع الحادثة بخفة ورشاقة وخبرة باختصارات الطرق وفشل الحراس في تعقبهم وعدم معرفة الجاني لتقيد الحادثة ضد مجهول.
ولقد اجتهد الكاتب في تصوير هذه الواقعة أيما اجتهاد فكان السرد بليغًا والتفاصيل دقيقة ودعم ذلك كله بعدد جيد من الصور لمواقع ذات علاقة مثل عين أم خريسان التي وقعت الحادثة في طرفها وعين نجم التي كان الحاكم يوم مقتله عائدًا منها وبوابة سور الكوت الشمالية (بوابة المبرز) التي خرج منها متجهًا إلى عين نجم وحي آل ملحم في النعاثل وبيوتهم القديمة، ثم عرج على ما بعد الحادثة والمكافأة المرصودة للدلالة على القاتل وفشل هذه المحاولة، ثم تحليلات الكاتب واستشهاداته حول التحقيق وكيف غاب البعد الاجتماعي المتمثل في طلب يد الفتاة عن تفكير المحققين ثم حصره في الجانب السياسي فقط، وكذلك تعليق الكاتب على أسماء من نفذوا عملية الاغتيال، كما أشار في تحليلاته إلى أن أحمد السديري أمير الأحساء الأسبق لمحمد أفندي والذي كان وقت الحادثة موجودًا في الأحساء وكيلًا لبيت المال بعد عزله عن الإمارة توارد عليه الشك لضلوعه في الاغتيال لاسيما أن علاقته بأسر الأحساء ومنهم آل ملحم وثيقة فطلب منه العثمانيون الرجوع من الأحساء إلى أهله في نجد، ويرى الكاتب أنه ربما كان له دور في تمرير معلومات إلى أسرة آل ملحم حول تحركات محمد أفندي.
بعد هذا السرد للواقعة يعود الكاتب إلى لطيفة العبدالعزيز الملحم ليقدم سيرتها في صورة متكاملة منذ نشأتها بين حكم بني خالد ثم حكم آل سعود قبل أن يستولي العثمانيون على الحكم فترة حادثة الاغتيال ثم عودة الإمام فيصل بن تركي للحكم مرة أخرى ليعم الرخاء، وهنا يفتح الكاتب نافذة على حياة هذه الفتاة مع زوجها الأول الذي حرمت الإنجاب معه ففارقته لتتزوج بآخر وتنجب ولدين، وفي حملها بجنينها الثاني تتسبب معركة الوجاج في فقدها لأبيها وأخيها وزوجها مرة واحدة، وفي هذا السياق يصفها الكاتب بخنساء الأحساء، ثم يستطرد في ذكر وقائع عنها ليقدم من خلالها الجو الذي تعيشه بطلة القصة ويستخلص منها للقارئ حكمتها وحسن تدبيرها، ولأن الكاتب وثائقي بارع فقد حصل أيضا على نسخة من وصية بطلة القصة؛ ليختم حديثه المشوق عنها بفصل عنوانه “وصيتها ووفاتها”.
ثم يمضي بالقارئ في محطات علمية متسائلًا: “لماذا أرخ ابن عيسى والبسام وغاب غيرهما؟” ويقصد غيرهما من علماء الأحساء بينما هما من مؤرخي نجد، وثاني المحطات رد ثري على مغالطة تاريخية في تحقيق إبراهيم الخالدي لكتاب “تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق” عام 1421هـ قبل أن تحققه دارة الملك عبدالعزيز لاحقًا عام 1437هـ، وقد فند المؤلف شبهات الخالدي في عدة محاور سلك فيها منهجا علميا رصينا أثبت فيه بنجاح قدرته العلمية وتمكن حجته؛ لينتهي الكتاب في 413 صفحة من الحجم المتوسط مقدمًا للقارئ والباحثين الذين تتقاطع موضوعاتهم مع فترة الحادثة أو أشخاصها وأحداثها بشكل أو بآخر وجبة غنية بالوثائق والمعلومات وأعتقد أن هذا الكتاب سيحافظ على قيمته مرجعًا مهمًا لتاريخ الأحساء لسنوات طويلة لما فيه من مادة دسمة من الوثائق والمعلومات المرجعية والتحليلات المنطقية المتينة.
التعليقات مغلقة.