Estimated reading time: 8 minute(s)
كتب للأحساء اليوم – وليد السليم
قبيل غروب شمس أحد أيام العشر الأخير من رمضان 1409 هـ / 1989 م وفي رواقات المسجد الحرام كانت الوجوه مشرقة بالصوم مضيئة بالطاعة، وبين طائف وساع وراكع وساجد وتال للقرآن الكريم هناك بالقرب وعلى مد البصر من يمد ويهيئ سفر إفطار الصائمين، في ظل تلك الأجواء الروحانية الفريدة اقترب صديق للعائلة منا وأكرمنا بالمشاركة معنا في الإفطار؛ كان رجلًا مسنًا في العقد السابع من عمره وهو من متقاعدي أرامكو؛ دلف نحونا وفي يده لفافة قصدير وضعها بجوار التمر وكؤوس ماء زمزم و”ترامس” القهوة التي يفوح عبق أريجها في الأنحاء، وما هي إلا لحظات ويصدح الشيخ علي ملا بصوته الندي بأذان المغرب فيتناول الجميع حبات من التمر ويتبعونها بماء زمزم؛ فيقترب صاحبنا بوجهه الوضاء ولحيته البيضاء ليغدق علينا من فضله وكرمه بفتح لفة القصدير ويوزع على المتحلقين حول السفرة أقراص الـ”بان كيك” التي قام بصنعها بيده في شقته قبل مجيئه إلى المسجد الحرام، كانت تلك الأقراص الذهبية الهشة من ألذ ما أكلت من البان كيك في حياتي وحتى اللحظة لم أذق مثلها وبلا مبالغة؛ فلقد كانت تفوق في شكلها ولونها ومكوناتها ونكهتها ما تقدمه أرقى المطاعم العالمية؛ السر في ذلك أن ذلك الشيخ الكبير المتقاعد من أرامكو اشتغل فترة من عمله إبان شبابه في شركة أرامكو في “المطبخ” الأرامكاوي الشهير بأطباقه الشهية، وتعلم مهارات الطهي في الستينات والسبعينات الميلادية من القرن الفائت في جنبات ما يسميه موظفو الشركة “الكافيتريا”؛ إذ تعلم ألف باء الطهي من عدد من الطهاة الأمريكيين وغيرهم من الطهاة العالميين الذين كانت تستقدمهم أرامكو لتقديم الوجبات لموظفي الشركة من السعوديين والموظفين من الجنسيات الأخرى؛ فقد كانت أرامكو ولا تزال شركة عابرة للبحار والقارات.
والحق أن النقلة لم تكن في ذات الأطباق العالمية التي كان موظفو المطبخ السعوديون في أرامكو يتقنون طهيها وتقديمها بمهارة منقطعة النظير بل قولبة التفكير التي أسهمت فلسفة أرامكو آنذاك في ترسيخها للحاضرة والبادية وتغيير القناعات تجاه الأعمال المهنية والحرفية واليدوية، قطعًا كان الأمر تحولًا ذهنيًا وحضاريًا جديرًا بالتأمل.
اليوم وبعد أكثر من ثلاثين سنة من تلك السفرة الرمضانية المكية يبتكر “وليد أجواد”، وهو خباز أحسائي شعبي توارثت أسرته هذه المهنة أبا عن جد، يبتكر في مخبزه الشعبي الذي تحفه نخيل الأحساء الباسقة الخبز الأحمر الحساوي بتقنية طهي جديدة، وذلك باستخدام دقيق الأرز الحساوي الأسمر مضافًا إلى المكونات الرئيسة وهي التمر والحبة السوداء والهيل والحلوة “اليانسون”، ويخلو ابتكاره الجميل من أي إضافة لأي منكهات وألوان اصطناعية أو مستحضرات كيميائية؛ فيخرج الخبز من تنوره البسيط بلون وشكل ونكهة ورائحة زكية ومكونات غنية لا تكاد تجد لها مثيلًا في العالم، وهذه حقيقة.
ويبقى أن أقول إنه من الستينات الميلادية من القرن المنصرم إلى الألفية الثالثة ومن بان كيك الحرم المكي من متقاعد أرامكو 1989 م إلى خبز “أجواد” الأحمر بالأرز الحساوي 2021؛ تستوقفني تشاركية في أيقونة لا تخطئها العين؛ وهي أن الأيدي السعودية ماهرة حد الألق، وأثبتت ولا تزال تثبت على مر السنين أنها في قمة تعانق عنان السماء ويمكننا بالتأكيد أن نراهن عليها وعلى نجاحها وتألقها محليًا وإقليميًا ودوليًا.
التعليقات مغلقة.