متكلسون في سرديات تاريخية

Estimated reading time: 13 minute(s)

كتب للأحساء اليوم – عبدالله بن أحمد الملحم

لماذا نقرأ التاريخ، وأي أهمية لكتابته، هل ثمة فائدة ترتجى لتتبع أخباره وتدوينها، وإذا لم تثبت جدوى لذلك فلماذا نهدر أوقاتنا لنصغي لسردياته الماضوية والإنسان دومًا وأبدًا يعيش الحاضر ويتطلع إلى المستقبل !

لماذا نحبس أنفسنا في إطار ثنائية متضادة، متنافرة الأقطاب، مختلفة الاتجاهات، فيزيائية الحياة تعلمنا ذلك، في ديننا نحن مأمورون بالاستغفار لماضينا الذي غدا تاريخًا، والعمل لمستقبلنا لآخرتنا السرمدية، وأدبيًا ثقافتنا تدعونا لعدم الالتفات للوراء والبكاء على ما فات، لأن السعادة في التناسي والتفاؤل بمستقبل أفضل، كل شيء يدفعنا للأمام ولا يشدنا للوراء إلا مغرض يبتغي إعاقة تقدمنا، وهو ما يسقط جدوى تدريس التاريخ ونحن نعيش عصر الذرة والفضاء والانفجار المعلومات اللامحدود .

وحتى لو كان التاريخ ترفًا علميًا، فأي جدوى لتدريسه، وها هو فايروس كورونا يُغير علينا، يغزو العالم، ينشر الرعب، يثير الفزع، والناس مازالوا يخوضون في تاريخ الأوبئة الفتاكة لكن أيًا من أحاديثهم لم يقضِ على الفايروس أو يخفف من آثاره، فيما التصدي له قائم على قدم وساق في المختبرات والمعامل والمستشفيات وليس أقسام التاريخ في الجامعات ؟!

التاريخ رغم أهميته البالغة مازال هناك من يرمقه بتلك النظرة القاصرة، جدلية التلاعب بالألفاظ قد تكون مقنعة للبعض لكن الواقع ليس كذلك، التاريخ والمستقبل صنوان متناظران متكاملان، والكتاب التاريخي لحقبة مضت هو المِرآة التي نرى فيها واقعنا مع اختلاف بعض التفاصيل، وهذا ما يجعلنا إذا قرأنا نصًا تاريخيًا ورأينا أحداثه المماثلة لواقعنا تتجلى مجددًا قلنا:” التاريخ يعيد نفسه”  .

التاريخ ذاكرة الشعوب والأوطان، ومستودع أفكارها وتجاربها، كما عقل الإنسان الذي يختزن تجاربه القديمة المؤرشفة التي تساعده في التعامل مع كل جديد يعرض له، التاريخ يعلمنا الحكمة من خلال استلهامنا لتجارب من سبق، لذا هو علم جليل القدر جم الفوائد، وقيمته لا تؤخذ من سوق العمل ومدى توفر الفرص الوظيفية لحاملي شهاداته، ولو كان الدخل المادي هو الأهم لكان نجوم الرياضة والفن ومشاهير السوشال ميديا – الأعلى دخلًا – أهم من وجود الأطباء والمهندسين والمعلمين في حياتنا .

حين ننسى يخبرنا التاريخ مَنّ نحن ؟ يساعدنا في البحث عن ذاتنا الماضوية، عن هويتنا الثقافية، عن جذورنا الفكرية، عن قواعدنا الصلبة، التي تحمي وجودنا، وتدعم وقوفنا، وتحفظ توازننا، وتساعدنا للقفز نحو الأمام، لتحقيق أسمى وأهم الغايات، التاريخ – باختصار- يعلمنا أن نكسر الأرقام القياسية لمن سبقونا لتتفوق إنجازاتنا على إنجازاتهم كما يقول جون ستيورات ميل .

تُرى هل كان لعبدالرحمن الداخل أن يقيم دولة بني أمية في المغرب (الأندلس) بعد سقوطها في المشرق لولا علمه بتاريخ أسلافه وعظمة دولتهم وفتوحاتها الممتدة من الصين شرقًا وحتى جنوب باريس غربًا ؟ هل كان لصلاح الدين الأيوبي أن يحرر بيت المقدس ويحقق انتصاراته بتوحيد الشام ومصر لولا علمه بماضي أمته التليد؟ هل كان للملك عبدالعزيز أن يؤسس دولته المترامية الأطراف لولا علمه بتاريخ أسلافه في الدولة السعودية الأولى والثانية ؟ وعلميًا هل كان للأسر العلمية قبل التعليم النظامي المتاح للجميع أن تُخرج أجيالًا من العلماء لولا إدراك اللاحق منهم بتاريخ ومكانة من سبق من آبائه وأجداده، وحتى في الطب معرفة الطبيب بتاريخ مريضه الطبي يساعده على التشخيص المناسب لحالته، وتقنيًا لولا علم الصانع بتاريخ الآلة وعيوبها لما استطاع تطويرها .

التاريخ مدرسة الحياة ومعلم الأجيال، حتى في الأشياء التي نعتقد ألا صلة له بها، هو كقداحة تصدر شررًا لا يطهو الطعام، لكنه يشعل النار التي تطهو الطعام، التاريخ دليلنا إلى المعرفة، ووسيلتنا إلى الجمال، ولولا استلهام نزار قباني للتاريخ لما كتب قصيدته الرائعة، عبقرية المعاني والأفكار، عذبة الأسلوب والكلمات، تلك التي تُقرأ كرُقية إبداع لا يُمل سماعها، وهو يحكي مناجاته لمرشدة سياحية إسبانية ذات ملامح عربية، لعل من المناسب انا أقف هنا لأدع لـ نزار إكمال المقالة شعرًا، ليحدثنا عن فتاته التي لقيها في غرناطة فاستحضر التاريخ والقرون الخالية وهو يصفها قائلًا:

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا                ما أطـيب اللقـيا بلا ميعادِ

عينان سوداوان في حجريهما                   تتوالـد الأبعاد مـن أبعـادِ

هل أنت إسبانية ؟ ساءلـتها                قالت: وفي غـرناطة ميلادي

غرناطة؟ وصحت قرون سبعةٌ               في تينـك العينين.. بعد رقادِ

وأمـية راياتـها مرفوعـة                              وجيـادها موصـولة بجيـادِ

ما أغرب التاريخ كيف أعادني               لحفيـدة سـمراء من أحفادي

وجه دمشـقي رأيت خـلاله                   أجفان بلقيس وجيـد سعـادِ

ورأيت منـزلنا القديم وحجرةً                   كانـت بها أمي تمد وسـادي

واليـاسمينة رصعـت بنجومها                      والبركـة الذهبيـة الإنشـادِ

ودمشق أين تكون؟ قلت ترينها               في شعـرك المنساب نهر سوادِ

في وجهك العربي في الثغر الذي                ما زال مختـزنًا شمـوس بلادي

في طيب “جنات العريف” ومائها             في الفل، في الريحـان، في الكبادِ

سارت معي والشَعرُ يلهث خلفها                   كسنابـل تُركـت بغيـر حصادِ

يتألـق القـرط الطـويل بجيدها                        مثـل الشموع بليلـة الميـلادِ

ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي                  وورائي التاريـخ كـوم رمـادِ

الزخـرفات أكاد أسمع نبـضها             والزركشات على السقوف تنادي

قالت: هنا “الحمراء” زهو جدودنا                فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي

أمجادها؟ ومسحتُ جُرحًا نـازفًا               ومسحتُ جُرحًا ثانيـًا بفـؤادي

يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت                      أن الـذين عـنتـهم أجـدادي

عانـقت فيهـا عنـدما ودعتها                 رجلًا يسمـى “طـارق بن زياد”

التعليقات مغلقة.