ترياق النقد المسموم.. قراءة في كتابين: “وهم المؤامرة” و”جلاء الغبش”

Estimated reading time: 24 minute(s)

كتب للأحساء اليوم : عبدالله بن أحمد الملحم

عند دراسة تاريخنا المحلي نجده محاطًا بمسارين نقديين، أحدهما -وهو الأكثر- نقد موضوعي مؤسس على منهج علمي رصين، والآخر -وهو الأقل- نقد مسموم يستهدف خلط الأوراق، لزعزعة ثقة الناس في معارفهم، تكريسًا للتشكيك في حقائقه العلمية بسوء فهم واستنباط، بُغية إضعاف أدلته الدامغة باستنتاجات واهية، ليغدو المتفق عليه مختلفًا فيه، وعرضة للأخذ والرد، وصولًا لإسقاطه وعدم الاحتجاج به، وفي هذا ما يكفي للعبث بتاريخنا وتشويهه تحت مزاعم نقد مفترى يتدثر بمسوح النقد التاريخي!.

التاريخ عالم تتقاطع فيه تفاصيل الحياة، والباحث التاريخي لا يسعه استقراء النصوص التاريخية لحقبة مضت بمعزل عن فهم الظروف المحيطة بها، واقعنا التاريخي في مراحله الزمنية المتعاقبة نتاج عوامل: سياسية، دينية، اجتماعية، اقتصادية، أثرت فيه ورسمت صورته على مسرح الأحداث، وأهل الجزيرة العربية في القرون الماضية أدركهم من اضطراب الأمن وشظف العيش وقسوة الحياة ما جعلهم يُشغلون بطلب الرزق عن ترف التدوين التاريخي، حتى إن أحد علماء نجد عَبر عن معاناته في تلك الفترة بقوله:” ولولا قِل القرطاس عندنا لكتبتها لكم لتنظروا فيها”. هذا النص المقتضب يُبرز حجم المعاناة التي عاشها علماء ذلك الزمن، كما يكشف عن أهمية النُبذ التاريخية النجدية التي وصلتنا كبناء تراكمي أضاف إليه اللاحق بمزيد إيضاح ما تركه السابق طلبًا للاختصار أو ربما لقلة الورق، حتى أظلنا عصر المدونين الأوائل: حسين بن غنام، وحمد بن لعبون، ومحمد الفاخري، الذين بنوا على كتابات من سبقهم، وصولًا إلى رواد التوسع الثاني: عثمان بن بشر، وإبراهيم بن عيسى، وعبدالله البسام، الذين استقصوا بحسب ما وقفوا عليه من نصوص وأخبار، حتى بدت تواريخهم كمورد عذب ينهل منه المؤرخون فيفيضون فيه دراسة وتأليفًا، حتى غدت أعمالهم عماد البناء التاريخي للدراسات المعاصرة التي نقرأها الآن.

ولأن لكل قاعدة شواذ فقد شاء د. عبدالعزيز آل عبدالله -أستاذ الأدب والنقد في جامعة الملك سعود – أن يطالعنا برأي شاذ خالف إجماع أهل الاختصاص في كتاب له صدر عن دار نشر تجارية عام 2019م عنوانه:”جلاء الغبش – وقفات في تعقب المختلقات في مصادر التراث – الوقفة الأولى قراءة في بعض مصادر التاريخ المحلي”. وهو كتاب مسكون بوهم المؤامرة، مثخن بسوء الفهم، وضحالة الاستقراء، حيث زعم آل عبدالله أن عددًا من مصادر تاريخنا المحلي الموثوقة مختلقة ومزورة !! وإذا نظرت في استدلالاته فلن تجد أي دليل على مزاعمه تلك، وما ثم إلا افتراضات متوهمة، واستنتاجات مغلوطة أملاها تفكير رغبوي، لا علاقة له بالموضوعية والعلم والنقد، الذي تمترس خلفه ليزلزل أركان تاريخنا المحلي عبثًا وتشويهًا.

إن تلك المصادر العلمية الأصيلة التي سعى عبدالعزيز آل عبدالله لإسقاطها لم ترَ النور ولم تُطبع ولم تُنشر إلا بعد أن انبرى لدراستها وتحقيقها أهل الاختصاص من مؤرخين كبارًا وأساتذة تاريخ، طبقوا عليها مناهج التحقيق العلمي والنقد التاريخي، فوجدوها مصادر أصيلة، صحيحة متونها، متصلة أسانيدها، قد سلمت من القوادح والشذوذ، فحققوها ونشروها، وتلقتها الأوساط العلمية بالقبول، وما قد يوجد فيها من نقص أو أخطاء لا يخرج عن طبيعة الخطأ البشري المحض الذي لا يسلم منه عمل، أما الادعاء بأنها مُختلقة ومزورة فتكذيب للعلم، وتزوير للوعي، وتشويه للفكر، لا يمت للنقد بصلة.

إن مثل عبدالعزيز آل عبدالله كمثل ذلك الفتى القروي حمدان، الذي كان يتناول طعام العشاء مع أبيه وإخوته، وفيما هم كذلك إذ انفتل تيس من الحظيرة فدخل عليهم، فقال الأب: يا حمدان اربط التيس، فقام حمدان مسرعًا فوطئ طرف الصحن، فانكفأ الطعام، وكسر السراج، ووطئ برجله الأخرى بطن أبيه، فصرخ الأب في أبنائه دعوا التيس واربطوا حمدان!

ولتهافت طرح آل عبدالله تجاهل المؤرخون والأكاديميون والمثقفون كتابه، فلم يحفل به حافل، لأنه لا يستحق القراءة فضلًا عن الاكتراث به وتناوله بالنقد، لكن عندما اغتر به البعض، وروج له آخرون كما الكاتبة سعدية مفرح، التي وهبته مدحًا مجانيًا دون أن تطلع على المصادر التي شكك فيها، عندئذ انبرى المؤرخ علي بن سالم الصيخان، الذي كان بحق المتصدي الوحيد للفوضى الحمدانية، التي أحدثها د. عبدالعزيز آل عبدالله في مشهدنا التاريخي، كما فايروس مدمر جاء ليعبث بالإعدادات، ويمحو البيانات، ويعطل الانتفاع بالمنظومة الإلكترونية التي تسلل إليها، وفي هذا الصدد يَبرز كتاب الصيخان:” وهم المؤامرة – أصالة مصادر تاريخية ونقض جلاء الغبش” كمضاد حيوي لاكتساح الأثر المدمر لكتاب آل عبدالله الصادر لتسميم مشهدنا التاريخي، فكان كتاب الصيخان الترياق الذي أبطل مفعول سميته، ليحفظ لتاريخنا مناعته العلمية، وحصانته الموضوعية، وثقة الباحثين فيه.

إن واقعنا الثقافي المعاصر يعج بحمدانيين كثر، خدعتهم الشمس بطول ظلهم، وغرهم قوقل بسرعة إفاداته، فاستسهلوا القص واللصق، وقالوا في العلم بلا دليل، وبلا موضوعية، وبلا منهج، وما ثم إلا أجندات مضمرة يترجمها تفكير متأزم بتخرصات وأوهام، للطعن في المصادر العلمية، والتشكيك في دراسات العلماء، والتقليل من جهودهم، لمجرد عجزهم عن فهمها، أو لأن بعضهم كان يؤمل ذكر أسلافه في تلك الأسفار، فلما لم يجد ما يرجوه أعمل قلمه طعنًا وهدمًا على طريقة أبي فراس الحمداني حين قال: إذا مِتُ ظمآنًا فلا نزل القطر، وكأنه يقول إذا لم تذكر تلك الكتب أخبار أجدادي فلتذهب إلى الجحيم، ولا يهم بعد ذلك إذا ذهب معها تاريخ شعب وذاكرة أمة، لم يبق من تاريخها إلا النزر اليسير الذي يحاول آل عبدالله إعدامه والقضاء عليه.

إن مصادر تاريخنا المحلي التي استهدفها عبدالعزيز آل عبدالله بالإرجاف واتهمها بالاختلاق والتزوير مصادر أصيلة لا تشوبها شائبة من حيث ثبوتها لمؤلفيها، ولا إشكال فيها إلا لدى من قرأها بقناعات مسبقة، تفترض التآمر ثم تبني على فرضياتها أوهامًا:

ومن يك ذا فم مُرٍ مريضٍ             يجد مُرًا به الماءَ الزلالا

إن كارثية طرح عبدالعزيز آل عبدالله أنه بنى كتابه على ظنون وفرضيات واستنتاجات، اعتقد واهمًا أنها قرائن وأدلة وبراهين، فزعم أن أربعة كتب من تاريخنا المحلي مختلقة ومزورة في الفترة الواقعة بتاريخ 1350هـ، دون أن يقدم دليلًا واحدًا على زعمه هذا، ففي محاولته البائسة لإسقاط كتاب: تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق، لمؤلفه الشيخ عبدالله بن محمد البسام المتوفى عام 1346هـ، يشكك آل عبدالله في مخطوطة الكتاب المحفوظة بمكتبة أرامكو والمتداولة بأيدي الباحثين، وهي بخط المصري نور الدين شريبة -أحد معلمي مدرسة عنيزة الثانوية- وهنا يأتي آل عبدالله بشهادة طالبين ممن درسا في مدرسة عنيزة –وعلى فرض صحة الشهادة التي يدعيها ولم يرفقها بكتابه– فإن شهادتهما نافية وشهادة النفي لا تقدم على شهادات الإثبات التي أوردها المؤرخ الصيخان، ضمن حزمة من الأدلة الصريحة الواضحة على وجود المعلم شريبة، وكيفية نسخه لتحفة المشتاق، التي استعارها من ورثة المؤلف البسام بشفاعة الشيخ عبدالرحمن السعدي، وفق وثائق مراسلاتهما، كما أرفق مراسلات شريبة لجون رينتز خبير أرامكو الذي طلب نسخ المخطوطة لصالح مكتبة أرامكو، ولم يكتفِ الصيخان بذلك بل ذكر النسخ الخطية الأخرى لــ: تحفة المشتاق، وأهمها نسخة المؤلف المحفوظة في دارة الملك عبدالعزيز، ثم ذكر النسخة الثالثة بخط الشيخ عبدالله بن صالح بن عبيد، وفي ذلك ما يسقط افتراءات وأراجيف عبدالعزيز آل عبدالله حول تحفة المشتاق، لكن الصيخان استقصى أكثر فذكر العلماء والمؤرخين الذين نصوا على نسبة (تحفة المشتاق) لمؤلفها الشيخ عبدالله البسام، وممن نص على ذلك قاضي عنيزة الشيخ صالح بن عثمان القاضي المتوفى عام 1351هـ، وآخرون منهم: خير الدين الزركلي في موسوعته:( الأعلام)، وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين، وحمد الجاسر في أحد كتبه، والشيخان عبدالله بن عبدالرحمن البسام، ومحمد بن ناصر العبودي وكثيرون غيرهم، كما لاحق الصيخان أوهام وأراجيف آل عبدالله ففندها بدقة ووضوح وتفصيل، حتى لم يترك لدى القارئ أدنى شك في أن ما قاله آل عبدالله ليس إلا محض هراء وتخرصات وأوهام.

وبذات الأسلوب تناول الصيخان تشكيك آل عبدالله في:”رحلة مرتضى بن علوان” وكتاب:”لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب” وكتاب:”الدرر المفاخر في أخبار العرب الأواخر” ففند أراجيفه حولها على نحو ما فعل لـــ تحفة المشتاق، إن مشكلة عبدالعزيز آل عبدالله التي تثير الرثاء له والشفقة عليه: توهمه أنه محور العلم ومنتهى المعرفة، ومن ثم افتراضه أنه قد اطلع على كل ما يتعلق بالكتب التي طعن وشكك فيها، معتقدًا -وهذه مصيبته الكبرى- أن عدم علمه بالشيء دليل على عدم وقوعه، والصيخان جاءه بعشرات الوثائق والمخطوطات والأدلة التي قالت له: نمت وأدلج الناس، وعلمت شيئًا وغابت عنك أشياء.

أخيرًا لمعرفة الطريقة النقدية التكهنية التي ينطلق منها د. عبدالعزيز آل عبدالله في نقد الأخبار والروايات والأحداث والأعلام، ما أدرجه تحت عنوان:(الغرائب)، وللاختصار سأكتفي بمثال واحد فقط، حيث ساق جملة من الأخبار التي اعتبرها غريبة شاذة لا يمكن تصديقها، كقوله عن الشيخ البسام في تحفة المشتاق:((ولم يذكر من القتلى سوى مطلق بن ضويحي الدويش وولد إسماعيل الدويش)) وهنا يتساءل عبدالعزيز آل عبدالله فيقول:((حتى ولد إسماعيل لم يذكر اسمه)) وهذا دليل للبسام الذي وقف عند حدود ما بلغه من علم، ولم يتزيد بتأليف اسمًا لا يعلمه، وفي هامش الصفحة 37 يعلق آل عبدالله متهكمًا فيقول:( (ولا أعلم هل يعرف الدوشان إسماعيل أم لا؟!)) وكأنه يفترض أن الدوشان شيوخ قبيلة مطير البدو الرحل لا يمكن أن يسموا في زمن الدولة السعودية الثانية أحد أبنائهم باسم: (إسماعيل) الذي افترض أنه من أسماء الحضر وليس البدو، وهذا منتهى السذاجة والسطحية في قراءة نصوص التاريخ ونقدها، إذ لا أعرف أحدًا قرر ذلك قبل آل عبدالله، ولمعرفة زيف وتهافت كوميديا نقده الحلمنتيشي حسبنا أن نلقي نظرة على مشجرة الدوشان، لنجد اسم إسماعيل ضمن أبناء محمد بن وطبان الدويش، ولإسماعيل ولدان: علي ومشل، ولهما ذرية باقية حتى يومنا، وفي هذا ما يكفي لمعرفة المنهجية التي سار عليها مؤلف جلاء الغبش في نقده !

ختامًا، أهمس في أذن د. عبدالعزيز آل عبدالله فأقول: لو كان كتاب تحفة المشتاق مختلقًا كما زعمت، فلابد أن يُختلق لصالح مستفيد، لكن قارئ الكتاب لا يجد ذلك المستفيد أبدًا، ولو افترضنا أن شأنه خافيًا بحيث لم يتبين لنا أمره، فما بال المؤلف البسام ترك عشرات السنين دون أن يدون فيها كلمة واحدة، مكتفيًا بعبارة:((ثم دخلت سنة 1046هـ ولم نعلم بحوادثها)) وكثير غيرها، أليست تلك السنين غير المؤرخة فرصة سانحة لاختلاق الأخبار لو كان الكتاب ألف لهذا الغرض؟! كيف عميت بصيرتك عن قول البسام: ((ثم دخلت سنة 1053 وسنة 1054 وسنة 1055هـ ولم نعلم بحوادثهن)) وهذا ولا شك أكبر دليل على أمانة البسام وتحريه الدقة والمصداقية وعدم التزيد في رواية الأخبار.

إن هذه المقالة المقتضبة لا تغني أبدًا عن قراءة الكتاب الماتع: (وهم المؤامرة – أصالة مصادر تاريخية ونقض جلاء الغبش) الذي كتبه المؤرخ علي الصيخان، فشفع كل تفنيد بمعلومة تعضده، أو وثيقة تؤكده، أو صورة مخطوطة تؤكد المؤكد فكفى وشفى، ولم يترك عذرًا لصاحب شبهة، أما المختلف لهوى فلا سبيل لإقناعه، وأحسب أن أولئك الحمدانيين المتطفلين على تاريخنا، لو قرأوا كتاب الصيخان لغير الكثير من مفاهيمهم المغلوطة في تناول أحداث التاريخ، والافتئات على مؤلفي كتبه وأسفاره.

التعليقات مغلقة.