Estimated reading time: 14 minute(s)
كتب للأحساء اليوم : سلمان المعيوف
تخيل أن تقضي أول أيام العمل الأسبوعي (يوم الأحد) في مهام عمل شاقة، فتخلد بعدها إلى النوم كي تأخذ حاجتك من الراحة. تستيقظ باكرًا صبيحة اليوم التالي (الاثنين) لتستأنف ما تبقى لك من مهام لم تتمكن من أدائها في يومك السابق. تواصل العمل بوتيرة متسارعة وأنت تراقب ساعة جوالك بين الفينة والأخرى؛ خشية مضي الوقت سريعًا قبل أن تتمكن من إتمامها.
وبينما أنت منهمك في أداء مهامك إذ تجد نفسك قد شارفت على إنهائها، فتُعاود النظر إلى شاشة الجوال، فتُسر وتنعم براحة البال؛ إذ لم يتبقَّ لك إلا نزر يسير جدًّا، والوقت الباقي كافٍ لإنجازها. ولكن، تُصعق فجأة ويتبدل حالك من هول ما رأيت. يا إلهي! إنه يوم الثلاثاء وليس الاثنين!
اعرف أنك الآن بدأت تبحث عن أقرب خيار يُفسر لك ما حدث، وربما بدأت تحتمل أنك -بناءً على هذه الفرضية أو التصور- قضيت يومًا كاملًا في النوم دون أن تشعر، أو ربما تكون ليلة نومك هي ليلة الثلاثاء وليست الاثنين، أو أن جوالك بحاجة إلى إعادة ضبط إعدادات الأيام والتواريخ، إلخ.
تخيل أن يخيب ظنك أمام كل هذه الاحتمالات، وتتأكد حينها أن الجوال كان صادقًا معك وأمينًا في ما نقله إليك.. إنه فعلاً يوم الثلاثاء!
إن ما ذكرته ليس تمهيدًا لأتطرق إلى معضلة الزمن من جانب فلسفي أو من جانب علمي فيزيائي، وليس محاولةً لمحاكاة أفلام الخيال العلمي الأمريكية أو حلقة من حلقات “طاش ما طاش”، بل هو تعبير صادق عن شيء واقعي حدث لي ما يُشبهه في الحقيقة.. فهل تصدقون؟!
رجاءً.. لا تتسرعوا في الحكم علي، ولا ترموني بالحجارة، ولا تهاجموني بالأسئلة التهكمية أو الاستنكارية.. اصبروا ودعوني أقصّ لكم الحكاية من بدايتها.
شاءت الأقدار أن أضطر إلى العمل ليلًا على غير عادتي منذ أن بدأت العمل في الوظيفة الحكومية، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي واجهتني فإنني كنت مسرورًا جدًّا؛ لأن التجارب الجديدة مغريةٌ بالنسبة إليّ حتى لو كانت صعبة أو غير مرغوبة، فهذا -في اعتقادي- يُعطي الحياة معنًى أعمق، بل لعلي لا أجد قيمةً لحياةٍ نحياها وهي فقيرة من التجارب وخالية من التحديات.
ذات ليلة وصلت إلى مقر العمل تقريبًا عند الساعة التاسعة والنصف من يوم الاثنين (اليوم الثاني من أيام العمل الأسبوعي)، وبدأت استكمال إعداد تقرير عن إنجازات إدارتنا خلال العام الماضي. كنت أرغب في إنجاز المهمة قبل نهاية ساعات العمل المقررة في تلك الليلة، فعكفت على أدائها ساعات متواصلة دون راحة، ولم أتوقف إلا بعد أن أتممتها.
وقبل إرسال التقرير إلى مدير الإدارة كتبت في ذيل مقدمته أن يوم تقديمه هو يوم الاثنين، وبعدها نظرت إلى شاشة جوالي كي أتأكد من التاريخ حتى أوثقه بدقة، وإذ بي أتفاجأ وأذهل مما رأته عيناي! إن اليوم هو يوم الثلاثاء وليس الاثنين! ارتبكت للحظات وشعرت بشيء من الذعر والفزع من هول ما رأيت، ولكني سرعان ما انتبهت إلى أن الساعة حينها اقتربت من الثالثة ليلًا، وهذا يعني أن يوم الاثنين غادرنا، ودخل يوم آخر وهو يوم الثلاثاء!
لا أخفيكم أنني دخلت في نوبة من الضحك، ودوت انفجارات قهقهاتي في أرجاء المكان، وكلما حاولت كبحها أفلتت مني وانتشر دويها أكثر. حمدت الله لعدم وجود أحد حولي! بقيت مذهولاً من عدم انتباهي لهذه الحقيقة رغم بداهتها، وفي الوقت ذاته تعجبت كيف تمكنت ثوانٍ معدودة -لعلها لم تتجاوز الثلاثين ثانية- من الإخلال بضبط توازني، لدرجة جعلتني أعيش لحظات عصيبة من الشقاء والاضطراب.
لم ينتهِ المشهد بعد، ولم تنتهِ معضلتي عند هذا الحد، إذ لم يهدأ لي بال؛ بدأت بمساءلة نفسي ومحاسبتها لعلي أجد سببًا مقنعًا يُفسر ما حدث.
في البداية أرجعت السبب إلى النعاس والحاجة إلى النوم والراحة، خاصةً أن ذلك جاء بعد يوم طويل بذلت فيه مجهودًا شاقًا حتى ساعة متأخرة من الليل، إلا أنني سرعان ما رفضت هذا التفسير، ووجدته سطحيًّا لا يلامس جوهر المشكلة، فالحاجة إلى النوم -وإن كانت تُؤثر في الإنسان وتسلبه تركيزه أحيانًا- لا يمكن اعتبارها سببًا أساسيًا، فكثيرًا ما أكون نعسانَ وبحاجة إلى النوم دون أن أفقد تركيزي على هذا النحو.
لذا؛ اعتبرت هذا التفسير بمثابة عذر لإيجاد سبب سريع وجاهز لأريح نفسي وأستريح من دوامات التفكير المتعبة، وهذا مرفوض بالنسبة إلي؛ لأنه سيحول بيني وبين الوصول إلى معرفة السبب الحقيقي، فتجاهلته وانطلقت في رحلة البحث عن سبب آخر يكون أكثر إقناعًا.. وها قد وجدته أخيرًا.
إن سر غفلتي هو أنني اعتدت أن يكون اليوم الثاني من أيام عملي الأسبوعي هو يوم الاثنين، ولم أنتبه إلى أن طبيعة عملي الحالية اختلفت وتغيرت ولم تعد كما عهدتها وألفتها منذ سنوات، إذ إن جزءًا منه يقع في يوم الاثنين، والجزء الآخر في يوم الثلاثاء، ولكني لم أنتبه إلى هذه الحقيقة رغم وضوحها، واعتمدت على ما استقر في عقلي اللا واعي من قناعات مبنية على عادات وتجارب سابقة من حيث لا أشعر، وأصبحت أحكم على الأمور وفقًا لها، وأتعامل معها كأنها قاعدة كونية أو قانون حتمي لا يتغير.
وفي هذه النقطة تحديدًا يكمن كثير من مشكلاتنا؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يُكبل نفسه بقناعاته وعاداته، ولا يقر له قرار حتى يجد نفسه حبيس سجونها ومقيدًا بأغلالها، والأغرب أنه يستلطفها ويألف أجواءها لدرجة تجده يستوحش في حال فراقها أو التخلي عنها، إذ يبقى يحنّ للعودة إلى قيودها وزنازينها. والأعجب أنه يحاول إقناع الآخرين بأهميتها ويشرح لهم مزاياها وفوائدها، وهو مسكين غافل لا يدري أنه يُروج لها ويُدافع عنها وهو إحدى ضحاياها.
وأنى له اكتشاف ذلك، وهذه العادات تتسلل إلى داخل عقل الإنسان شيئًا فشيئًا دون أن ينتبه لها، وما إن تستقر في أعماقه حتى تبرز له مفاتنها وتراوده عن نفسه إلى أن يضعف، فينساق وراءها ويتبع خطواتها خطوة خطوة، فتتلاعب بمشاعره وتعبث بأفكاره إلى أن تتمكن منه وتسيطر على حياته بكاملها.
لذا؛ على الإنسان أن يحذر كل الحذر من قناعاته ويعتني بمراجعتها والتدقيق فيها أكثر من انشغاله بمتابعة الآخرين وانتقاد أفكارهم وقناعاتهم؛ لأنها هي من تؤثر في سير حياته. وهذا قد لا يتأتى عبر التفكير العقلاني المحض، بل يحتاج إلى خوض تجارب جديدة ومواجهة تحديات استثنائية، تُثير في داخله بعض التنبيهات؛ ما يتيح له اختبارها والتأكد من سلامتها، وهذه خطوة ضرورية لنا جميعًا حتى لا نقع ضحايا لقناعاتنا وعاداتنا السلبية من حيث لا نشعر، فنكون ممن خسروا أعمالهم، وضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا.
التعليقات مغلقة.