لمحات من تاريخ الأحساء: آل ملحم والسلطة التركية.. الصدام والمواجهة

Estimated reading time: 28 minute(s)

كتب للأحساء اليوم – عبدالله بن أحمد الملحم

الكتابة التاريخية لوحة فسيفسائية كل قطعة تُضاف إليها تُكمل جُزءًا مفقودًا منها، حتى تتضح هويتها، وتكتمل معالمها، وتُرى بصورة أكثر وضوحًا، على هذا النحو رأيتني أُضيءُ لتاريخنا المحلي ومضات تاريخية لحقبة مضت، تصف جانبًا من مواجهات آل ملحم للسلطة التركية الحاكمة في الأحساء، أستعرضها كما وردت في مصادرها التاريخية، للفترات التي خضعت فيها الأحساء للحكم التركي وتجاذبات إداراته المتقلبة، التي أخذت طابع المد والجزر من حيث القوة والضعف، حتى وصفها المؤرخ عثمان بن بشر بقوله: “ولاية الترك أولها مطر وآخرها بَرَد وصواعق”.

تعددت دوافع تلك المواجهات وتنوعت طرقها وأساليبها، فأخذ بعضها حكم النضال الوطني كما في مشاركة آل ملحم لقوات الدولة السعودية الأولى المدافعة عن الأحساء عام 1213هـ، وكما في مناصرتهم للإمام تركي بن عبدالله عام 1245هـ، وأحيانًا تكون المواجهة دفعًا لصولة كبار موظفي تلك السلطة كما في حادثة اغتيال آل ملحم لمحمد أفندي حاكم الأحساء عام 1255هـ، ثم تعود المواجهة لطابعها الوطني كما في مناصرة آل ملحم للإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي عند سعيه لاسترداد الأحساء عام 1291هـ، وفي أحوال أخرى تبرز المواجهة دفاعًا عن مستجير كما في تصدي آل ملحم لجنود الأتراك أثناء مطاردتهم رجالًا من أسرة آل حبيل استجاروا بآل ملحم عام 1326هـ، إلى جانب مواجهات فردية ذات طابع شخصي بين رجال من آل ملحم وجنود الشرطة التركية، وصولًا لاسترداد الملك عبدالعزيز للأحساء عام 1331هـ، مستعرضًا نماذج من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

الدولة السعودية الأولى:

أولًا: روى صاحب كتاب: “لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب” المعاصر لأحداث عام 1212هـ خبر الجيش الذي سيره سليمان باشا والي العراق، بقيادة الكختدا علي باشا لاحتلال الأحساء في زمن الدولة السعودية الأولى، ووصف المؤلف بسالة المدافعين عن كوت الهفوف، فقال: “أهل الهفوف فإنهم معاهدون لآل سعود وقد دخل دين عبد الوهاب في قلوبهم، فجُذبت أنفسهم إليه أتم جذبة، ومنهم طائفتان كبيرتان إحداهما اسمها السياسب، والأخرى آل ملحم، ثم إن علي باشا بعدما سخّر جميع بلاد الأحساء ولم يبق إلا كوت الهفوف، أرسل إليه عسكرًا يحاربه، فلم يدركوا منه شيئًا، فأرسل أخرى ولم يصنعوا ما أراد ركب هو بنفسه بجميع العسكر، وحاصر الهفوف… ولم يزل يرمي القلعة بالبندق والقنبر حتى أعجز أهلها، وهدم من سورها جانبًا وكان أهلها ذوو بأس شديد”(1).

ومما يؤكد ذلك وثيقة أحسائية حررها الشيخ حسين بن غنام –تلميذ الشيخ محمد بن عبدالوهاب- ذكر أن من شهودها من وصفه ابن غنام بـــ”الأجل الأمير ناصر آل ملحم”(2)، الذي يغلب على الظن توليته أميرًا على القطيف من قبل الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، ومن مرجحات ذلك وجود أملاك للأمير ناصر في القطيف أوقفت بعضها ابنته حبيبة بنت ناصر العلي آل ملحم (3).

الدولة السعودية الثانية (الدور الأول):

ثانيًا: بعد سقوط الدرعية أواخر عام 1233هـ ولىَّ إبراهيم باشا ماجد ومحمد آل عريعر إمارة الأحساء والقطيف فحكموها باسم الدولة العثمانية، وعندما تمكن الإمام تركي بن عبدالله من حكم نجد، وتحرك لاسترداد الأحساء والقطيف بعد معركة السبية شرق الدهناء عام 1245هـ كان آل ملحم ضمن الزعامات المحلية المناصرة له، حيث دلت رسالة بعثها الإمام تركي بن عبدالله إلى عبدالعزيز اليمني -أحد رجاله في الأحساء- قُبيل مسيره إليها، مضمونها إجابة الإمام تركي على أسئلة اليمني المتعلقة بـ: تأخر وصوله، وعن ابن ملحم، وابن نویران، موضع الشاهد منها قول الإمام تركي لليمني:” اللي في خاطري عمدت عليه فيصل [بن تركي] وهو واصلكم ونحن إن شاء الله مثورين [منطلقين] حادرين على قربه وابن ملحم ألفا علينا وريضنا …”( 3 )، وابن ملحم المقصود في الرسالة: محمد الشلال البراهيم آل ملحم المتوفى عام 1285هـ، الذي تؤكد الروايات الشفهية أنه كان وكيل بيت المال في الأحساء من قبل الإمام تركي بن عبدالله، وفقًا لوثيقة محلية دلت على ذلك بتاريخ 1247هـ (4).

ثالثًا: في عام 1255هـ وبعد خضوع الأحساء لحكم محمد علي باشا عين خورشيد باشا محمد رفعت أفندي حاكمًا للأحساء، وكان معروفًا بالظلم والبطش، فخطب فتاة من آل ملحم فأبوا تزويجه، فتهددهم بالقتل، ومصادرة أموالهم، ونفيهم خارج الأحساء، وأخذ ابنتهم قهرًا، فما كان منهم إلا اغتياله في حادثة معروفة وصفها المؤرخون: عبدالله البسام، وإبراهيم بن عيسى، وحمد الجاسر في تاريخ كل منهم ( 5، 6، 7 )، وتفاصيل هذه الحادثة بسطتها في كتابي:” آل ملحم ومحمد أفندي” الصادر عام 1442هـ

الدولة السعودية الثانية (الدور الثاني):

رابعًا: في رمضان عام 1291هـ قدم الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي الأحساء فانضم إليه العجمان وآل مرة، وطلب من أهل الأحساء مناصرته لإخراج جنود الأتراك من البلاد فأجابوه لذلك، باستثناء الكوت لتحصن الحامية التركية داخله، فتمكن من اقتحام قصر خزام خارج الهفوف، واستطاع القضاء على القوة المتمركزة فيه، وحاصر قلعة الكوت من رمضان حتى شهر ذي القعدة، وفيه أقبل ناصر باشا السعدون على رأس حملة عسكرية من البصرة لفك الحصار، فتصدى له الإمام عبدالرحمن ومعه العجمان وآل مرة وأهل الأحساء، ولعدم تكافؤ القوى وقعت الهزيمة عليهم، فتمكن ناصر باشا من دخول الأحساء، وتشير الوثائق العثمانية إلى أسماء أبرز الزعامات المحلية التي ناصرت الإمام عبدالرحمن بن فيصل فتذكر منهم: ابن زرعة، ابن ملحم، ابن مانع، ابن ماجد، الحملي، ابن حبيل، وغيرهم ممن غادروا الأحساء إلى البحرين، فعاقبهم ناصر باشا بمصادرة أملاكهم (8).

خامسًا: في الفترة التي سبقت ضم الملك عبدالعزيز للأحساء كانت الفتن متأججة بين الأهالي، فهاجم آل حبيل أمراء قرية الطرف أهل قرية مجاورة، فقتلوا منهم رجالًا، فأخرج الوالي العثماني قوة للتنكيل بهم، فلم يقدر عليهم لتفرقهم في البلاد، فلما عاد عسكره إلى الكوت عاد آل حبيل إلى قريتهم، وبعد زمن جدت أحداث، وتكسرت نصال على نصال، فاطمأن آل حبيل وصاروا يختلفون إلى الهفوف، والوالي يتظاهر بالغفلة عنهم، حتى واتته الفرصة للنَّيل منهم، فداهمهم جنوده وهم في الكوت ففروا منهم، وكانت وجهتهم إلى فريق آل ملحم، الذي استجاروا بأهله فأجاروهم، فلما أدركهم العسكر ألفوا آل ملحم مشهرين أسلحتهم دون آل حبيل، فأمروا بالكف عنهم تجنبًا لسفك الدماء، فأقاموا في ضيافة الوجيه محمد بن سليم آل ملحم نحو سنتين، حتى تغيرت الأحوال وعادوا إلى ديارهم (9).

سادسًا: حادثة عم الديرة وقعت في الفترة التي سبقت ضم الملك عبدالعزيز للأحساء، وملخصها أن الأهالي الذين اعتادوا الخروج من دروازة آل ملحم استيقظوا ذات صباح فوجدوها مغلقة خلافًا للمعتاد، وكانت تُغلق عند الغروب وتفتح بعد الفجر، وهي بوابة العابرين إلى مزارعهم في السيفة، ومنفذ المسافرين إلى الرياض، فأخذ الناس ينادون الجندي التركي الذي يحرسها لفتح الأبواب، فخرج لهم مخمورًا يشتمهم ويأبى فتحها، فتجمهروا وطلبوا من بعض ذوي الوجاهة التدخل لحمل الجندي على فتح الأبواب، فآثر كل منهم النأي بنفسه عن الاصطدام به، فكثر لغط الناس وتعالت أصواتهم متذمرين، حتى أقبل عبدالله بن عبدالرحمن البراهيم آل ملحم فكرر على الجندي فتح الأبواب، وعند رفضه حاول انتزاع المفتاح فمنعه الجندي الوصول إليه، فتقاتلا فحمله الملحمي وألقاه أرضًا فسقط مغشيًا عليه، فانتزع المفتاح منه، وفتح الدروازة، فخرج الناس ينادون هذا “عم الديرة” تعبيرًا عن امتعاضهم من أولئك الوجهاء الذين قالوا لكل منهم: ياعم كلم العسكري… فلم يجدوا منهم إلا الخذلان، ومازالت ذرية عبدالله البراهيم آل ملحم يعرفون بهذا اللقب حتى يومنا هذا (10).

الدولة السعودية الثالثة (مخاضات التأسيس):

سابعًا: في عام 1309ه وقبل استقرار الإمام عبدالرحمن بن فيصل في الكويت مكث متنقلًا في عدة محطات مابين بادية العجمان وآل مرة وقطر إلى جانب الأحساء التي أقام فيها قرابة شهرين، حيث أقام في منزل لإبراهيم بن سيف وقيل لمحمد بن عمران وكلاهما في فريق آل ملحم بمحلة النعاثل، وممن كان يزوره ويستزيره من الموالين لآل سعود رئيس محلة النعاثل الشيخ أحمد بن عبدالله البراهيم آل ملحم، وعبدالله بن عبدالمحسن البراهيم آل ملحم، فتعززت علاقتهما بالإمام حتى غادرهم إلى الكويت، والأوضاع في الأحساء تسوء بسبب عجز السلطة العثمانية عن فرض الأمن في ربوعها، والأحسائيون يتطلعون لعودة الحكم السعودي الذي أمنت في ظله بلادهم، وحين بلغهم استرداد الملك عبدالعزيز للرياض عام 1319ه استبشروا خيرًا وأخذوا يكاتبونه، وممن كان يراسلهم ويراسلونه الشيخان أحمد وعبدالله البراهيم آل ملحم المذكورين آنفًا، يقول الدكتور عبدالله السبيعي:” تم تبادل الرسائل بين عبدالله بن جلوي وبين عبدالله بن عبدالمحسن الملحم في شهر ربيع 1322هـ، وبين ابن ملحم وعبدالعزيز آل سعود تبادلا فيها الأخبار وشرح عبدالله الملحم الأوضاع في الأحساء لعبدالعزيز آل سعود، كما أخبر الأخير ابن ملحم بما جرى بينه وبين ابن رشيد”(11).

ورغم تتبع السلطة التركية لأنشطة الزعامات المحلية الموالية لآل سعود بتعقب البريد المرسل من وإلى الرياض من خلال تفتيش العابرين لدروازة آل ملحم إلا إنها فشلت في عرقلته، وتشير الوثائق الإنجليزية إلى أن ابن رشيد أبلغ والي البصرة بأسماء عدد من الموالين للملك عبدالعزيز في الأحساء فتم القبض عليهم، باستثناء إبراهيم بن سيف الذي لجأ للشيخ أحمد البراهيم آل ملحم فقدم له الحماية ومكنه من الهرب إلى دارين بحماية قوة من آل مرة ( 12 )، ورغم الملاحقة والتضييق إلا إن التواصل بين الملك عبدالعزيز وأنصاره في الأحساء كان مستمرًا، حيث كان يطلعهم على أنشطته وانتصاراته، ومن ذلك رسائله للشيخ أحمد البراهيم آل ملحم الذي أطلعه الملك عبدالعزيز على آخر انتصاراته، كما أفاد بذلك كتاب حُرر قبل استرداد الأحساء بنحو خمس سنوات، بعثه أحمد البراهيم آل ملحم إلى الإمام عبدالرحمن بن فيصل قال فيه بعد التحية والسلام:” وردنا كتاب الولد عبدالعزيز الله يسلمه وبشارته باكوانه الثلاثة واخذه للبغاة المفسدين وكثرة غنايم المسلمين منهم استبشرنا جدا وحمدنا الباري سبحانه على هذه النعم المتواليه وكبت العدو ونسال الله تعالى يوالي نعمته على المسلمين بعزكم وظهوركم ولا يكدرها بمنه وكرمه هذا مع ما يبدو منه برسم الخدمة بلغ السلام الاولاد الكرام ومن عز عليكم ومن لدينا العيال والجماعة يسلمون ودم سالمًا محروسًا في 22 محرم 1327هـ المحب أحمد بن عبدالله البراهيم آل ملحم”(13).

وعند توجه الملك عبدالعزيز لاسترداد الأحساء عام 1331هـ أبلغ الشيخين أحمد وعبدالله البراهيم آل ملحم بذلك، وعشية اقتحامه للكوت خرج أبناء الشيخ أحمد البراهيم آل ملحم للانضمام لجيش الملك عبدالعزيز المتمركز في الخفس القريبة من أسوار الكوت، وقد حدثتني فاطمة بنت خالد بن أحمد البراهيم آل ملحم عن أمها تقول:” ولدتي سنة دخول عبدالعزيز الأحساء، وليلة دخوله تحزم والدك وأخذ بندقه وخرج مع أعمامك لعبدالعزيز في السيفة، وقبل خروجه قبلك وأنت ممهدة في سريرك وودعني قائلًا: الله الله في العيال لا أدري نعود أم لا نعود، وخرج مع أعمامك عبدالمحسن وسليمان وناصر وعبدالرحمن”. فيما كان الشيخان أحمد وعبدالله البراهيم آل ملحم المذكورين مع رجالات الأحساء الذين تأهبوا لاستقبال الملك عبدالعزيز بعد اقتحامه لأسوار الكوت، كما حدثني بذلك العم خليفة بن عبدالله بن عبدالمحسن البراهيم آل ملحم يقول: بعد دخول عبدالعزيز الكوت عانق والدي ومن حضر، ومشوا بحذر ويده في يد عبدالعزيز حتى بلغوا بيت الشيخ عبداللطيف الملا وتم الأمر، وقطعًا ليس هذا كل شيء، ولكن حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق، وللحديث بقية .

الهوامش:

1- لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب ص216، تأليف: حسن الريكي، تحقيق: د. عبدالله العثيمين، طبع: دارة الملك عبدالعزيز عام 1426هـ.

2- وثيقة محلية غير منشورة ضمن أرشيف الباحث.

3- وثيقة محلية غير منشورة ضمن أرشيف الباحث.

4- وثيقة منشورة ضمن وثائق كتاب:”آل ملحم ومحمد أفندي” للباحث الطبعة الأولى 1442هـ.

5- تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق ص392، تأليف: عبدالله البسام، تحقيق د. أحمد البسام، طبع دارة الملك عبدالعزيز عام 1437هـ.

6- تاريخ ابن عيسى 3/71 تأليف: إبراهيم بن عيسى، تحقيق د. أحمد البسام، طبع الناشر المتميز عام 1440هـ.

7- معجم المنطقة الشرقية 3/1237 تأليف: حمد الجاسر، طبع: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر عام 1401هـ.

8- التصدي السعودي للحكم العثماني للأحساء والقطيف ص106، تأليف: د. عبدالله السبيعي طبعة 1420هـ.

9- جريدة الجزيرة السعودية، الأحد 22 ذو القعدة 1428ه العدد 12848، والحادثة معروفة يرويها رجالات آل حبيل وآل ملحم على حد سواء.

10- رواية الشيخ سلطان بن عبدالله آل ملحم، ورواها مختصرة منصور بن مروي الشاطري في كتابه:” أسر تحضرت من قبيلة مطير” ص123 .

11- التصدي السعودي للحكم العثماني للأحساء والقطيف ص149، تأليف: د. عبدالله السبيعي طبعة 1420هـ. التصدي السعودي للحكم العثماني للأحساء والقطيف ص140، تأليف: د. عبدالله السبيعي طبعة 1420هـ

12- وثيقة محفوظة ضمن أرشيف الباحث.

 

التعليقات مغلقة.